أقسام الوصول السريع (مربع البحث)


لبنى ياسين - سوريا لا شيءَ إلا هو وخيبته وعفونته في فضاءٍ يضيقُ بأنفاسه، يتكومُ فوقها، وتتكومُ فوقه بين جدران أربعة تتربصُ بأشلاءِ الفرح المترقب منذ سنين، يستنشقُ العفن الذي يفوحُ من أوردته فيزداد اختناقاً، وتطالعه النافذة الوحيدة في غرفته المغلقة بإحكامٍ لتقفَ في وجه أي شعاعٍ هاربٍ من الشمس يحاولُ التسلل نحوه بأسئلةٍ عقيمة لا رغبة لديه في الإجابة عنها. حتى سريره اكتسحته رائحة الرطوبة، وملمس العفونة الخشن، ولون الظلام حين يفرش عباءة اليأس فوق جسد منهك من كل شيء .. حتى أنفاسه.  هناك ألم شديد في رأسه يشبه ألم المخاض عندما يلمُّ برحمٍ يوشك أن يلفظ الكائن الذي يحتويه، يشعر أن شيئاً ما يوشكُ أن يولدَ من رأسه، ربما كان عقله يريدُ أن يهربَ من عفونة الأنفاس التي تحملُ له الهواء الرطب المثقل باليأس . لا شيء يسكنُ أوجاعَ المخاض اللعينة ، ودماغه يغلي معلناً نيته بالانفجار في أي لحظة، واللونُ الأسودُ يكتسح كل شيء فيه، بينما الظلام يتقاتل مع حواسه ويحرقه وجعاً .  يلعنُ كل شيءٍ في سرِّه، ويغازلُ الموتَ لعلـَّه يقبلُ في حلةٍ زاهية فينتشله مما هو فيه، وعندما يلتفتُ حوله مترقباً قدومه يجدُ نفسَه محاطاً بالعفن والظلام، ولا شيءَ غيرهما منذ سنين . يباغته فجأة إحساس بوجود شخص آخر في فضاء الغرفة، بالأحرى عينين ترقبانه هما ما يدفعه للإحساس بوجودِ شخصٍ آخرَ على يمينه تماماً، يستدير ببطء وقد شلـَّه الخوفُ، فيقعُ نظره عليها، تقفُ بكامل فتنتها وجمالها عاريةً تماماً أمامَ عينيه، تتحدى صبره ووجعه، ينتابه الفزع من ظهورها هكذا فجأة دون مقدمات في فضاء غرفة لم تعتدْ أنفاس غيره، إلا أن حواسه تتخدرُ شيئاً فشيئاً أمام هذا الجمال العاري الواقفِ أمامه دون خجل.  ينظرُ إليها فتبادره : هيا قــمْ وارتدِ ثيابك لنخرج من هنا. يديرُ رأسه للجهة الأخرى، يفركُ عينيه لعله يمحو هلوسات اليأس التي تنتابه في تلك اللحظات، ويعودُ ويستديرُ رويداً باتجاهها، فيراها كما رآها أول مرة، الفتنة ذاتها، والتحدي نفسه، إذنْ فهي ليستْ وهماً! ولا هلوسة رجلٍ يائسٍ، إنها موجودة حقاً، كل هذا الجمال يقف هنا عارياً في غرفة كل ما فيها يشي بالقبح، حتى صاحبها، ويدركُ فجأة أن الصداع الذي مزقه منذ قليل لم يبقَ منه أي أثر، كأنه كان مجردَ وهمٍ ألمّ به .  يتفرَّسُ بها عله يتعرف على ملامحها، من أين جاءتْ ؟ كيف دخلتْ إلى هنا برائحتها المنعشة، وبياضها الفاسق ؟ تكادُ تكون النقيض لكل ما ألفه من أشكال وروائح . تمدُّ يد الغواية نحوه، تريدُ أن تنتشله من عالمه هذا إلى الخارج، تمسكُ بتلابيبه، فيستغلُ قربها منه ويحاولُ شدَّها إليه ليذوبَ في حضنِ دفئها، يريدُ أن يحبسها في غرفته ويمنعها من الخروج، فتشدُّ نفسها وتحرر جسدها الدافئ من قبضته بقوة هائلة، تتغلبُ عليه بسهولة فائقة فيتراجع أمامها مخذولاً بخيبته، تحدثه نفسه باستغراب:  يا الله .. من أين لهذا الجمال الفاتن الذي يطغى على أنفاسي بكل هذه القوة ؟ تعودُ وتمسكُ بيده، كأنها تمارسُ معه لعبة الغواية الأزلية فتزيده احتراقاُ، تهمسُ في أذنه: قم لنخرجْ من هذا القبر العفن، فمكانك ليس هنا. ينظرُ إلى ذلك القدِّ الساحرِ الواقفِ أمامه عارضاً فتنته بكل ابتذال، وتلك الثقة المدهشة التي ترتديها دون أي شيءٍ غيرها، وتدهشه المفارقة الغريبة..في كونها تطلب منه أن يرتدي ثيابه للخروج، وهي عارية تماماً، كأنها لا تدركُ ذلك، يفكرُ في نفسه : لن أتمكنَ من حبسها بالقوة، فعلي بالحيلة إذن. يبادرها قائلاً: ما لك وللخروج الآن تحت ضوء الشمس وحرارتها؟ الشمس تحرق وجه الكون، فلمَ تسمحين لها بشيِّ هذا الجمال الأخاذ؟! لننتظر حتى المساء. تنظرُ إليه نظرة ملؤها الشفقة وترد: يا لك من بائسٍ ، هل رأيتَ العصافير يوماً تطيرُ في المساء ؟ العصافير لا تمدُّ جناحيها إلا لتحتفي بالشمس ، وحدها الخفافيش تعانق الظلام وتحتفي بالسواد . تشدُّ الستارة القاتمة عن نافذته بقوة فتسقط الستارة على الأرض جثةً هامدةً، ويتطايرُ غبارُ المللِ المتراكم فوقها، وتتمزقُ خيوط العناكب التي نُسجتْ بين الحوافّ التالفة، وتندفعُ الشمس إلى الداخل كما لو كانت طوفاناً، تقتلعه من نفسه، فيستديرُ واهباً ظهره لضوء الشمس، مستقبلاً بوجهه بقايا الظلام الهارب إلى لا مكان .  تضيفُ بلهجةٍ آمرة: استدرْ باتجاه الشمس أيها المعتوه، اغتسلْ بالضوءِ القادمِ نحوك، افتحْ قلبك للدفء لعلك تتخلص من رائحة العفن التي تسكنُ جلدك . يرتجفُ صوته - هو الذي يواجه الشمس لأولِ مرةٍ منذ سنين- مستخدماً حيلته الأخيرة، ويقولُ وقد تغلغلتْ فتنتها في عروقه فبثتْ به رغبة جامحة لامتلاكها، ولضمِّها إلى صدره بقوة، وإلقاء رأسه في حضنها لتعبثَ بخصلات شعره كما كانت تفعل أمه :  دعينا أولاً نحتسي فنجاناً من الشاي ، ونتحدث قليلاً . إلا أنها تتجاهلُ دعوته بوقاحة وترد : لنخرج الآن حالاً ، وإلا سأخرج وحدي، أكادُ أتقيأ من رائحة العفن المنبعثة من الجدران . يستبدُّ به غضبٌ فاجر، ينظرُ إليها وفي نيته إجبارها على البقاء، فترميه بنظرة متحدية، وبنبرة مستفزة تشير بسبابةٍ بيضاء تطعنُ الفراغ إلى الباب قائلة: الآن. فجأة يشعرُ بالبرد، يرتجفُ من قمةِ رأسه إلى أخمصِ قدميه، يمزقه الغضبُ فيصرخ بها: لن أخرجَ في الشمس أيتها الغبية، لن أحرقَ نفسي وهي تسكبُ غيها فوق رأسي, لا من أجلك، ولا من أجل أي شيء آخر...هل فهمت؟ تردُّ بتحدٍ: حسناً .. ابقَ إذن مع عفنك لعلك تندفن فيه، دع العفونة ترشحُ من جلدك ومن عينيك، ُمتْ بها أيها الغبي، فأنت تستحقُ ميتة مثل هذه ، أنا خارجة من هنا، ولن أعود .  يركعُ على ركبته أمامها، وبصوتٍ ملؤه الرجاء يصرخ: أرجوك.. لا تغادري .. ابقيْ معي قليلاً . ترد: ألا تفهمُ يا هذا؟! هذا منزلٌ للموتِ وليس للحياة .. مكانٌ كهذا لا يليق بي .. ولا بك ، اخرجْ من بؤرة الظلام ، لماذا تستسلم للموت ؟ تجذبه فتنتها أكثر، تغويه ، تقلبُ مشاعره على نار الشوق فتقتربُ من الاستواء، يشعرُ بحاجةٍ لفعلِ شيءٍ لم يقمْ به منذ زمنٍ بعيد، يمسكُ بها فتحاولُ أن تشدَّه نحو الباب، ويحاولُ أن يدفعها بعيداً عنه فلا يفلح، يحاولُ تطويقها ليتمكنَ من منعها من الخروج بالقوة، تحتضنها حواسه كلها دفعة واحدة، يعاني من طقوسِ شيءٍ ما في داخله، كأنما هي حواسه تستيقظُ دفعة واحدة، يدقُّ قلبه بقوة، ويستجيبُ جلده لملمس بشرتها اللينة الدافئة، يختنقُ بعبراته وهو يصرخُ بها:" لا تغادري"، إلا أنها تخلصُ نفسها منه بسهولة كما لو كان مجردَ حشرةٍ تسلقتْ قدمها، تنسابُ من بين أصابعه كما لو كانتْ حفنة ماء، تركضُ باتجاه الباب، ينظرُ إليها ، يصرخُ بها : مجنونةٌ أنتِ!! ..على الأقل ضعي شيئاً عليك استري سوأتك به ! هل ستسيرين عاريةً بين الناس؟! .  تصوبُ عينيها نحوه بنظرة تتحولُ الشفقة الناطقة منها إلى سكينٍ تقطعٌ أوردته وتجيب : أيها المسكين ..لا سوأةَ لي كي أخفيها ، تولدُ الفكرةُ لتمشي عاريةً بين الناس، وتعانقَ أحلامهم .

مقالات أدب وثقافة

لبنى ياسين - سوريا

لم أفكر قبل هذه اللحظة في المعنى الحقيقي للحياة، وللموت، رغم أنني واجهت في رحلتي نحو بلاد الضباب الموت على نحو مخيف، كانت تبدو فيه فرص نجاتي مساوية تماماً لفرص موتي، لكن هذا التساوي بين الحياة والموت جعلني أراهن على الحياة، وأمد عينيّ بعيداً نحو السماء، أطلب عمراً مديداً، وأحلم بأنني سأكون ما أريد، وسأمسك بتلابيب حلمي يوماً ما.

الآن فقط وأنا بين جدران أربعة، يفصلني عن الموت وقت مهما زاد فهو قليل جداً، أنتظر قدري، موقن في أعماقي بأن النجدة لن تأتي، بعد أن طال انتظاري لها،أو ربما تأتي متأخرة بمقدار آخر نفس أتنفسه تغادرني الروح بعده، أفكر في معنى الموت، ومعنى الحياة، أفكر في سؤال فلسفي لا إجابة له:لماذا خلقت؟ وفيم أموت؟ وما بين البداية والنهاية..ما هي الحكمة من وجودي على هذه الأرض.

لا أدري من أين واتتني كل هذه الشجاعة لكي أنتظر الموت في غرفتي، وأتصل بأهلي وأصدقائي مودعاً كمن هو على شفا رحيل، وليس قاب شهيقين وزفير واحد من الموت.
لا أدري أيضا من أين واتاني كل هذا الجبن لأتسمر في غرفتي بانتظار النهاية.

تمر حياتي كشريطٍ سينمائي أمام عينيَ، مدرستي الإبتدائية في الحي الذي عشت فيه في قريتي الوادعة خربة غزال، أصدقاء الطفولة، الثياب المدرسية، المدرسة الإعدادية، مدير المدرسة، مدرس اللغة العربية، الوجوه المتمللة في الصف، المدرسة الثانوية، النشيد الوطني، وتحية العلم الصباحية، الطريق إلى المدرسة، بنت الجيران التي عشقتها حتى خلت أن الحياة بدونها مستحيلة، حواري دمشق، الجامعة..وما أدراك ما الجامعة!! الحرب في سوريا، الحواجز التي أتعبت نهاراتنا رواحا وغدياً ، ثم القرار الأخير...الرحيل.

لم يخطر في بالي وأنا أعتنق الرحيل خياراً لا بديل عنه أنني كنت أمشي باتجاه الموت، كنت أعتقد أنني أهرب بعيداً عنه ما أمكنني، كنت أهرب من الجندية الإلزامية التي تعني فيما تعنيه على أرض الوطن أن أتحول إلى مشروع نعوة وعزاء، كما هم أصدقاء الطفولة الذين ذهبت بقلب مثقل بالهم والحزن لمواساة أهليهم واحداً تلو الآخر، بعد أن تم فرزهم إلى النقاط الساخنة، قبل حتى أن يستعدوا لذلك، وهناك عند النقاط الساخنة تساقطوا تباعاً، وجلبوا إلى بيوتهم جثثاً مدماة، مع تعويض مالي ضئيل يهين كرامة الجثة قبل الأهل.

أراهن أن أحداً من أبناء المسؤولين لن يكون في المناطق الساخنة، ولا حتى الباردة، بل هم في بيوتهم تدثرهم أمهاتهم في ليالي البرد، لم يشعروا بالغلاء، ولا بنقص المواد الغذائية، لم يخشوا الجوع، ولا تشردوا عن منازلهم، ولا نال البرد من فرائصهم كما حدث معنا جميعاً.
المواطن فقط ..المواطن المسكين الذي لا هوية له ولا حق داخل وطنه هو من تشرد وجاع وخاف، وفي آخر الأمر رُمي بأولاده أمام عينيه على الخطوط الساخنة دفاعاً عن وطن نسي فيما نسي أن يحفظ لهم ماء وجوههم.

جاحد هو هذا الوطن الذي يدلل بعض أولاده، ويأكل بعضهم الآخر، يلتهمهم كما الغول، ولا يبقي من آثارهم إلا عويل الأمهات، والدمع الأخرس لأبٍ يحاول أن يبقى متماسكاً كرجلٍ حتى آخر لحظة.

أشم دخان الحرائق المشتعلة في البناء، أشعر بالدفء الذي تفرضه أسنة اللهيب التي تأكل البناء العالي بسرعة مخيفة، وتنتابني قشعريرة لمجرد أن يمر في رأسي أنني سأموت حرقاً، يا ألهي: هل هربت من الموت رمياً بالرصاص، ونجوت من الموت غرقاً، لأموت محترقاً؟

سيضحك المسؤولون في بلدي شامتين:هربت من الجندية ها؟؟ تفضل ومت حرقاً ..

أخطأني الموت مرتين، مرة في بلدي عندما ركبت جياد الرحيل هرباً من موت محقق له ألف وجه ووجه يلاقيني به، ومرة وأنا أهرب في القوارب التي تسير نحو الموت أكثر مما تسير نحو النجاة، وعندما اعتقدتُ أخيراً أنني نجوت من براثنه، أطبق علي من حيث كنت أظنني في مأمن منه.
من المضحك أن أكون في بلد متقدم، وفي عاصمة كلندن، وأموت بسبب تقصير في إعدادات الأمان في بناء كغرين فيل، يزهو باستطالة سبعة وعشرين طابقاً، ألأنه بناء مخصص لذوي الدخل المحدود لم يُعطَ أمر تدابير الأمن والسلامة فيه الأهمية اللازمة التي كانت كفيلة بانقاذ البناء وأهله؟!!

أقترب من النافذة، وأرى طفلاً يسقط من البناء باتجاه الأرض، لا بد أن أمه ضنت بجسده اللين على النار، فصرخت بها: التهميني لو شئتِ لكنك لن تصلي إلى ابني أبداً، أي قلب قلبها وهي ترمي به بعيداً عنها لتهبه الحياة، وتستأثر بالموت كما لو كان رفيقاً محبباً؟!!.

أرجو من الله أن يكون هناك على الأرض ما أبقاه سالماً.
الدخان يتسرب من تحت الباب، ومن الشقوق..

البارحة فقط كنت أخبر صديقي عن فرحي بدراسة الهندسة في جامعات لندن، قلت له أنني كنت سعيداً وأنا أدرس الهندسة في سوريا، ولم يخطر في بالي حتى في أشد لحظات الحلم جموحاً أن أفكر في أنني سأحمل شهادة الهندسة من بريطانيا.

أخبرته وقتها أنني سأعود وأبني وطني الذي عيث به فساداً ودماراً.
قلت بأنه على جيلنا أن يتحمل مسؤولية البناء، طالما أن جيلاً سبقنا عرف كيف يدمر الوطن بطريقة لا أخال أنه ستقوم له قائمة في وقت قريب.
قلت أيضاً أن حكمة الله قضت بخروج معظم الشباب، ليعودوا بعد حين إلى ربوع الوطن، وهم أكثر خبرة، وتفتحاً ، ودراية بما يحتاج الوطن ليقف مرة أخرى حصاة في حلق الأعداء.
لا أريده مجرد حصاة..أريده جبلاً شامخاً شموخ قاسيون.
كم هو جميل قاسيون في مساءات الصيف، والنسائم الدافئة تقبل وجوهنا بحرارة لا تشعر بها إلا في نسائم بردى المحملة برائحة الياسمين..
هل حملتْ شجرة الياسمين في حارتنا من الزهر الأبيض الرقيق ما يكفي ليطغى برائحته على رائحة البارود يا أمي؟

أنظر إلى الساعة، مرت ساعتان وبضع دقائق مذ عرفت أنني محتبس في بناء يحترق، وأن مصيري بات معروفاً، استطاع أخي- ولله الحمد- أن يخرج، وحاصرني الدخان فيما كنت أتبعه محاولاً النزول ، فأجبرني على العودة إلى غرفتي.

لم ينتبه أخي إلى غيابي، ظنني وراءه، وعندما استدار ولم يجدني كلمني عبر الجوال، وعلم أنني عدت إلى غرفتي بعد أن حاصرني الدخان بكى، ورجاني أن أحاول النزول، لكن ذلك كان ليعجل حتفي، لماذا علي أن أتجه لملاقاة النار ؟ ألا يكفي أنها تسير بسرعة نحوي؟!

سأكلم أمي وأبي، من أولى منهما بسماع آخر كلماتي؟!..
ومن لي الآن بدعائهما يخفف عني وعثاء النار ولهيبها؟!.

الرنين المتقطع لا يطول، يبدو أن أمي وأبي ينتظران مكالمتي، ربما يحدوهما أمل بأنه قد تم انقاذي، يظنان أنه في بلد متقدم كلندن لن يطول الأمر قبل أن تصل إليَ فرق الإطفاء، وتأخذ بيدي، وتخرجني سالماً غانماً، وأن هذا الحادث سيغدو ذكرى سيئة، أخبر بها أولادي، وربما أحفادي لاحقاً.

صوت أمي تنتحب...أنفاس أبي تصلني عبر جهاز الجوال
آه يا أمي:
لم يفرصني الوطن بما يكفي لأرد جميلك وجميل أبي...ولا الحياة فعلت!!
أمي ..أبي..
النار وصلت إلى باب بيتي
لا أمل لي في النجاة
أحبكما كثيراً

صوت نحيب أمي يعلو ويعلو حتى يقطع نياط قلبي، أريد أن أطلب منها ألا تبكي، أريد أن أطمئنها أن من يموت حرقاً شهيد لا محالة، وأن هناك على الضفة الأخرى من الحياة مكان أجمل، وأكثر أمناً، وأنني سأكون في كنف الرحمن..لكنني لا أقوى على الكلام، شيء ما يكبلني بقوة، فلا أستطيع أن أحرك جارحة من جوارحي..حتى لساني..الدخان يغمر الغرفة، أشعر برئتي تحترق، سعال شديد يقتلع رئتي من مكانها، ألم هائل في رأسي يفتك بي، صور كثيرة تتزاحم فيه، تتزاحم..حتى لا أستطيع أن أفك طلاسمها، الملامح تختلط ببعضها فلا أستطيع أن أميز هل هذا وجه أبي يرتسم في رأسي؟ أم وجه أمي؟.أشكر الله دون صوت أن أخي نجا من الحريق، فثكل واحد كافٍ ليمزق قلب أمي، تتداخل الألوان أمام عيني بقوة فلا أعرف لها اسما ولا صفة..ثم تختفي كلها دفعة واحدة، لا شيء سوى البياض يملأ رأسي الذي صار ثقيلاً بما يكفي ليلقي بي على الأرض ، كل الأشياء حولي اختفت...ولم يبق سوى صوت نحيب أمي .
تعليقات