استطاعت الشاعرة السورية "عزيزة هارون" ابنة مدينة اللاذقية التي عاشت بين(١٩٢٣_١٩٨٦) أن تكون إحدى رائدات الدعوة لتحرير المرأة، جنبا إلى جنب مع ملك حفني ناصيف ، وهدى الشعرواي، ومي زيادة، وغير هن، وأن تكسر قيودها المجتمعية نحو فضاءات الشعرية الرحبة منشغلة تارة بعوالمها الذاتية والهم الأنثوي الذي كابدته مضاعفا، ومنطلقة نحو الأرحب وطنيا وقوميا وإنسانيا تارة أخرى، متحدة مع الطبيعة ولتتبادل الأدوار معها، وتصبح الطبيعة مرآة فرحها وحزنها، تعكس هواجسها وخوفها، قلقها و ألمها، وهي التي كانت واحدة من ضحايا أكثر الجرائم إيلاما بحق الطفولة العربية، ومن أشد العادات والموروثات المجتمعية الشرقية ظلما ، تلك التي تسفح أحلام الطفولة على عتبات زواج مبكر لقاصر غير متكافئ، حرمها طفولتها ودراستها النظامية، لتزف عروسا بعمر ١٤ عاما لرجل تجهله، يكبرها بعشرين عاماً، لتنتقل من وأد لآخر، مسلوبة القرار ومهيضة الجناح، من سجن لسجن جديد، قبل أن تتكشف الوجود وتخبره، ولما تجد متنفسا تفيئ إليه إلا الشعر، وفي قصيدة (تهت في الضباب)
ولكن مقامها في بيت الزوجية الموهوم لما يدُم ، إلا ستة أشهر، حتى انتقلت لحبس من نوع جديد، بعد أن ثارث بوجه قيودها وحطمتها، لترتدي خلاصها قيدا آخر كبلتها به وصمة تلاحق النساء في دول العالم الثالث، وتضعهن في الدرك الأسفل من المجتمع، لتعيش ما تبقى من عمرها حبيسة كلمة أبغض الحلال "مطلقة" دون ولد ولا معين، في مجتمع يكبل الأنثى، ويدفنها خلف أبواب العادات، ولم تستطع حتى آخر حياتها أن تحسم أمرها رغم إيمانها العميق بحقها الطبيعي في أن تحيا الحياة، ولكن خوفها، وما كبلها به المجتمع ومالقنته لها أمها جعلها تكابد الشوق على صفحات شعرها، وتدير ظهرها له حتى آخر يوم في حياتها، رافضة توقها للإكتمال والتماهي بالآخر، منسحبة إلى عوالم الحزن والقهر والآلام الذي تجرعته طوال حياتها،
ولا أغالي إذا قلت : إن كتابة الشعر بحد ذاته في تلك الآونة كان جرأة، وتمردا، ورفضا للقوالب المسبقة الصنع التي كانت تعلب حياة المرأة بالنمطية بعيدا عن الإبداع والفرادة الذي كانت تتوق له الذات الشاعرة لعزيزة هارون
وبين بساطة كلماتها و رقة عباراتها، واتساق جرس موسيقاها السلسة الخافته التي تصدر عن نفس مرهفة الحس ، طبعها إحساسها الدافق، النابع من قعر الوجع ملونا بشتى ألوان الآلام ، إضافة للغتها السهلة، والعفوية البعيدة عن التكلف إلى حد دفع البعض ليشبه أسلوبها بأسلوب البحتري، ولكن ذلك لا يعني أنها لم تكن تمتلك أدواتها الشعرية الخاصة، وتجيد على قلة دراستها الأكاديمية صياغة مقطوعاتها الشعرية ببراعة تنأى بها عن الضحالة، وترقي بها وبقارئها لأعلى مراتب النقاء والكشف كما عند المتصوفة الكبار، خاصة مع ما لقنها إياه أستاذها الشيخ سعيد المطرجي بعد مغادرتها المدرسة على حد رأي عبداللطيف أرناؤوط،
وانطلقت بعد هذه البداية المتعثرة، للحياة تكتب في المجلات ( مجلة الحياة، الموقف الأدبي، مجلة الثقافة، مجلة فكر، ) وتشارك في المنتديات والملتقيات الشعرية والأمسيات ( شاركت في حفل المفوضية الباكستانية على مدرج الجامعة السورية إحياء لذكرى الشاعر محمد إقبال بقصيدة( إقبال)، وشاركت في مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد في سورية في فندق بلودان عام ١٩٥٦، وشاركت في مهرجان الشعر الرابع عشر ١٩٧٩.
ولكنها لم تسطيع إلا أن تنقل عوالمها بدءا من بيتها ومدينتها اللاذقية وبحرها الذي خصته بأكثر من قصيدة وانتهاء ببلدها سورية، ووطنها العربي الكبير.
ففي قصيدة “رسالة إلى بحر اللاذقية " تغني روحها الكئيبة وتشكو له ما فعلوه بها :
ورغم ذلك بقي الوطن الوجع الذي يطفو على سطح وجعها،ويلهيها عن آلامها ، ويحملها على تجاوزه، رغم أنه لم تشفَ منه أبدا، كما في قصيدة "الشمس الذهبيّة" :
وكملايين العرب اهتز وجدانها طرباً لنواة الوحدة العربية الكبرى بالاتحاد بين مصر وسورية في قصيدة حملت عنوان (غنيت وحدة أمتي)
وتاه فخرا على قوافي الشّعر اسم الوطن راية خفاقة، لا يستطيع عابر ديوانها إلا أن يلمحه مرارا، فهو الاسم الذي تختال النفوس له كرامة ومجدا وحبا، جياشة في هواها، رحبة في فضاها، كمافي قصيدة ( سورية):
و( الجولان) و( إلى الأرض العربية) و (جرح فلسطيني) و( القدس) و ( لبنان) لتعكس تجذر الشاعرة بأرضها وانتمائها و انشغالاتها بهموم بلادها الوطنية والقومية، وتبنيها قضاياه ، متعالية على همومها، إذ انبرت تدافع عن انتماء الجولان السوري، وانخرطت في الشأن اللبناني.. وكانت ضد كل الحروب الأهلية و المؤامرات التي تحاك ضد سيادته، ولم تكن القدس والقضية المحورية للعرب القضية الفلسطينية، ببعيدة عن وجدانها، طالما قضّت مضاجع الشعراء ، وعاشت ذلك القلق الوجودي، بين واقع مشتت، و حاضر قلق، وكذلك مصر والمرحلة العصيبة التي مرّت بها... آنذاك.
ولم تنسها عوالمها الخاصة والعامة، أن تستحضر نماذج المرأة الإيجابية التي خلدها التاريخ، وكتبن بماء البطولة أسماءهن في صفحاته الناصعة، فخورة ببنات جلدتها، ك (خولة بنت الأزور) في قصيدة حملت اسمها:
وقصيدة (جزائرية مناضلة) التي تناولت فيه الثائرة الجزائرية جميلة بوحيرد، بكثير من الفخر والعنفوان... تاركة خلفها زينة البنات... و باقات الزهر... مختارة درب الثورة والنضال .
داعية بنات جلدتها في بور سعيد في قصيدة أخرى للدفاع عنها جنبا إلى جنب مع الرجل :
فالمرأة معنية كالرجل تماما بالدفاع عن أرضها، و لم يعد بالإمكان بقاء المرأة حبيسة المنزل، عندما يناديها الواجب الوطني المقدس.
ولم تكتفِ بذلك بل انتقلت بروحها التي تشع إنسانية لتقدم نموذج الفتاة المتسولة وتصف خلجات النفس وما ينبض به ضميرها الحي،
في قصيدة حملت عنوان
ومثلها قصائد أخرى متفرقة منها( بائعة الزهور) و ( نداء الأمومة) تفيض بها جنبات الديوان وتغمر القلوب بأحاسيس غنية تنبض بإنسانية رقيقة، ترتقي بالشعر و القارئ معا، نحو أفق من الرفعة، والسمو الروحي والأخلاقي.
والقارئ العربي مدين للشاعرة والأديبة عفيفة الحصني التي عكفت على جمع قصائد الشاعرة الراحلة عزيزة هارون وترتيبها وتبويبها في ديوان قامت بإعداده وجمعه بعد وفاة الشاعره، و قدم له الأديب عبداللطيف أرناؤوط،و الأديبة الروائية إلفت الإدلبي، وتتحدث عن مرحلة جمع المادة من الصحف والدوريات، مستعذبة ذاك الجهد، ليس لأنها ارتبطت مع الشاعرة عزيزة هارون بصداقة، وإنما لأنها تعد ذلك خدمة للمجتمع العربي خاصة، وللمجتمع الإنساني بأسره،
وتقول في مقدمة الديوان مخاطبة الشاعرة الراحلة عزيزة هارون : "لقد حباك الله ذوقا فنيا رفيعا وشاعرية مطيعة، وصهرَك الألم بأتونه فأبدعت أيّما إبداع، وقديما قال شاعر الألم الفرنسي ألفره دو موسه : لاشيء يجعلنا عظماء مثل الألم العظيم. "
وكانت الأديبة إلفت الإدلبي قد رأت أن الشعر هو من سعى إلى عزيزة هارون بقولها في ذكرى تأبينها :
" إذا أردت أن تنظمي شعرا غزليا جاءك ببيادر الفل والياسمين لتنظمينها عقدا على جيد الحب يتخاطفها العشاق، ويتهاداها المحبون لأنهم عجزوا أن يقولوا ما قلت أنت، أو يأتيك بدفقات من الحب والحنان والشعور المرهف، فإذا أنت في شعرك الإنساني تواسين الطفولة المحرومة، تنتصرين للمرأة المهيضة الجناح، والإنسان المقهور، في أي مكان، أو يأتيك بصورة بطل مكلل بالغار، أو شهيد يسقي نجيعه تراب الوطن، أو أم ثكلى تقبلت الثكل راضية فداء للوطن، وكانت هذه الصورة النبيلة تظهر في شعرك الوطني المفعم بالحماسة، والحض على الفداء، وقلما كانت تمر في بلادنا مناسبة قومية دون أنا تشاركي فيها. "
"وماكان رامي ليدع الحديث يمر دون نكته كما هي عادته فقال : أنا والله حيران بين شِعرها و شَعرها ، لا أدري أيهما أروع، كلما انتصرت لواحد أتى الآخر بحجة أقوى.
وقد عدّ الأديب الكبير طه حسين أنها تمتلك موهبة أصيلة، ونقية، نابعة من ذاتها، وليس فيها شيء من الإكتساب، بعد أن تأكد أنها لاتعرف الفرنسية، ظانّا أنّها متأثرة بالشعراء الرومانسيين الفرنسيين، وخاصة (فرلين).
وقد كان للدكتور عبد السلام العجيلي رأيا في شعرها، وقد عكف على دراسته : " فالشعر الذي يشتق اسمه من الشعور لابدّ أن يحمل عند المرأة طابع أنوثتها، ويتبدى هذا الطابع عند عزيزة هارون في وداعةٍ ورقةٍ لا تكونان إلا لامرأة“.