حكاية "أليس في بلادنا"..!

هداية شمعون - فلسطين نزلت معي تتكىء على ذراعي بالكاد، عيونها مغرقة بالدموع لأنها تذكرت السجن الإسرائيلي وويلاته حين كانت معتقلة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، هي تعاني من أمراض كثيرة الغضروف والكبر وتكاد تهوى على درجات السلم من الطابق الثاني في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بغزة، حيث عقدت ورشة (**) حول الانتهاكات الإسرائيلية ضد الأسيرات الفلسطينيات. قالت بأسى: " انتهت الورشة وانتهى الكلام وفتحت جراحنا من جديد، لا أملك مواصلاتي للشمال، وانتظر رفيقتي -أيضا أسيرة محررة- أن تساعدني بالوصول لبيتي"  ثم أضافت:" لقد طردني زوجي أنا وبنتي حين خرجت من السجن الإسرائيلي، ووجدت نفسي في الشارع قال لي كلاما مسيئا، لأني كنت في سجون الاحتلال الإسرائيلي ما يزيد عن العام، ثم تزوج بأخرى وأهملني بل أصبح يعاقبني بقسوته وفي كل صباح ومساء، وينعتني بأبشع الألفاظ والصور"  وتستريح قليلا لتواري دموعها ووجهها المتغضن بالألم مستطردة:" الآن لو أني أملك الصحة والقدرة على الحركة لذهبت إلى الشمال حيث يجمع النساء والأطفال الحصمى لربما أجد دخلا يحميني ذل السؤال وتجاهل المؤسسات والجميع لنا، أو لعلي أموت برصاص الجنود الإسرائيليين فتكون راحتي التي لم فقدتها في السجن وخارجه" وأضافت:" لم يزرني أحد ولا يهتم بي أحد وقد تجاوزت الستين من العمر، ولا أحد يحفل بي إن مت في بيتي، بل ولازلت في هذا العمر اتلقى الإهانة من زوجي والمحيطين كأني اقترفت معصية..!!  صمتت ثم أخذتني في حضنها باكية: "نعم الجيران والأقارب يعنفوننا، ونجد نظرات مخيفة بعيونهم المتسائلة ماذا حدث معك في سجون الاحتلال؟؟ وأجيبهم دوما دون حتى أن يسألوا لقد رفعت اسم فلسطين عاليا ولكم أن تفخروا بي، لا أن تقيدوني بعيونكم نحو جسدي.. " هذا ما لم تقله أسيراتنا ولكنها عبرت عنه بكلماتها البسيطة ودموعها التي لم تجف لا في سجون الاحتلال الإسرائيلي ولا بعد خروجها منه!!.. هي قالت ما يبتعد الاعلام عن قوله لأنه إعلام متخاذل يخشى أن يتطرق لقضايا قد تثير حفيظة الكثيرين، أن تتعامى عن الحقيقة والواقع وتلجأ لتجميل الصورة وإبراز نموذج المرأة الفلسطينية السوبر كما أكدت العديد من الدراسات، نعم المرأة الفلسطينية بطلة ومناضلة وعانت الأمرين في سجون الاحتلال وأيضا عانت الأمرين من تقاليد وعادات المجتمع لتعامله معها بنهاية الأمر كأنثى تملك جسدا، وتدوس العديد من الأفكار البالية على نضال المرأة وصمودها وفناء عمرها وتحديها للسجانين وتدوس تاريخها المشرف والنضالي وتهزم المرأة وتقوقع ماضيها وحاضرها ومستقبلها في جسدها ومفهوم الشرف لدى الكثيرين ذلك المفهوم المفقود صورة ومضمونا..  ما أكتبه هو مرارة قصص الأسيرات المحررات التي قالتها جميعهن بشكل مباشر وما بين السطور، وبعضهن لم تسعفهن الكلمات ولكنهن قلن ما لم تجرؤ وسائل الإعلام على قوله.. لأننا كالنعام نحب أن نخفي الحقائق التي لا تروقنا وتضايقنا ونتعامل معها كأنها لم تكن وكأنها غير محسوسة أو مرئية، وكل ما نأخذه قشور سطحية لا تكشف حجم المعاناة التي تعانيها الأسيرات المحررات، هناك بعض المحررات أخفين أنهن كن معتقلات في سجون الاحتلال عمر أبناءهن وبناتهن كي لا يواجهن نظرات المجتمع لهن ولأبنائهن وبناتهن وخشية عليهن تحديدا من الظلم الاجتماعي وأخذهن بذنب أمهن وكأنهن أذنبن أصلا، وهناك من عرف بأن زوجته كانت معتقلة في يوم من الأيام فما كان منه -ومن أهله- أن انتظر ولادتها ثم اختطف ابنه وسافر وتزوج بالخارج وظلت محرومة منه عشرات السنوات دون أن ترتكب جريمة أو إثما وبدلا أن تنال فخرا ودعما يعاقبها المجتمع على عطائها وتضحيتها وشموخها في سجون الجلاد الإسرائيلي، وهناك منهن من رفضت بعض المؤسسات أن يكن من ضمن العاملات فيها ليس لسبب إلا حين معرفتهم أنها كانت أسيرة فلسطينية سابقة، ومنهم الكثيرون الذين رفضوا أن يتزوجوهن ولم تقبل عائلاتهم بالزواج منهن.  وفي استطلاع رأي قامت به إحدى الإعلاميات في ملتقى إعلاميات الجنوب ضمن حملة أسيرات خلف القضبان التي نفذت في شهر أكتوبر- ونوفمبر 2010 صدمنا بالعديد من الآراء لشباب وشابات يرفضوا الزواج أو تزويجهن لأحد أفراد عائلاتهم من منطلق أنها عاشت فترة من حياتها في سجون الاحتلال من جهة ومن جهة ثانية توقعهم أنها تملك شخصية قوية قد لا يتمكن الزوج من السيطرة عليها (بمفهومهم) فإذا تمكنت من مواجهة جنود الاحتلال الإسرائيلي فهي لا تصلح زوجة طيعة وهادئة؟؟ بل لقد صرح البعض أنه لا يرغب بالاختلاط بها مع عائلته رغم تأكيدهم على احترامهم لها ولنضالها ولكن كما زعموا أن هذا شيء والعلاقات الاجتماعية والأنساب شيء آخر..!!! يفجعنا كثيرا مجتمعنا بآراء متطرفة تجاه النساء والإناث بصفة عامة، ولكن أن يصل التفكير ببعض أفراده لهذا الحد فهذا أمر غير مقبول وبحاجة للتغيير لأنه ظلم آخر على الأسيرة المحررة التي أفنت عمرها وقدمت زهرة شبابها لأجل النضال والوطن والقضية، إن كل فصيل بات يهتم بأسيراته وأسراه ويتجاهل بقية الأسرى والحكومتان ضفة وغزة كل يهتم بأسراه وأسيراته ويسقط أن الواحد لأجل الكل والكل لأجل الواحد.  وأجد نفسي أعود لساعتين قبل بداية الورشة في الهيئة المستقلة: لقد تحدثت المحررة فيروز عرفة عن أساليب التعذيب التي تلقتها فترة اعتقالها، كانت تتحدث بقوة وكأن الحدث أمامها، تتذكر بصوت عال الكرسي الكهربائي، والرعب الذي حاول جنود الاحتلال بثه في نفسها ليجبروها على الاعتراف، وقالت أن الحياة داخل السجن هي ليست حياة بالمطلق فكل شيء ممنوع، والإهانات والتعذيب والشبح والعزل ومنع الرسائل والزيارات هي من أبجديات السجن الإسرائيلي للجميع نساءا ورجال وأطفالا، ثم أضافت التفتيش المذل العاري كان مع بدايات السجن الإسرائيلي وهو ليس أسلوبا مستحدثا بل عانينا الذل والإهانة فالمحققين كانوا يمزقون ملابسنا من شدة غضبهم لأنا كنا نرفض الاعتراف، ولم يفرقوا بين شاب وفتاة ثم صمتت فيروز التي نكأت الجرح من جديد لتترك زميلتها فاطمة الزق من قول تجربتها المريرة التي عايشتها وهي من واقع الاسيرات الفلسطينيات وليست من ضرب الخيال..  قالت فاطمة" وجدت نفسي في زنزانة الاحتلال الإسرائيلي، تحت الأرض، جدران سوداء، باردة كالثلج لدرجة أني ألصقت جسدي بالجدران علي أجد شيئا من الدفء، كنت حينها حامل وقد اكتشفت ذلك بالسجن، وخالطتني مشاعر الألم والفرحة معا، فمن جهة كنت أتمنى أن أكون بين أهلي وأسرتي لأتلقى الرعاية المناسبة في حملي، ولكني شعرت بشىء من الفرحة حين قدرت أنه هدية الله لي وللأسيرات في الأسر وكان يوسف الذي ولدته في الأسر رغم حرمانه من ابسط حقوقه كطفل إلا أنه كان أملنا الوحيد في السجن" وتضيف فاطمة:" أجلسوني على الكرسي مكبلة بالسلاسل، وجلسة انحنائية استمرت من 6-8 ساعات، كانوا يحاولون جاهدين لاجهاضي من خلال التعذيب والتنكيل، واجباري على تناول حبوب وأدوية وحقن، لكن قدرة الله كانت أقوى منهم بكثير، وفي فترة حملي أعلنت اضرابا عن الطعام مدة 21 يوما، فقد كنت قد تعرضت للعزل في زنزانة مغلقة لا ماء ولا هواء والعتمة تحيط بي من كل الجنبات لمدة 12 متتالية ولم أكن أملك إلا الدعاء واللجوء إلى الله في محنتي."  وأضافت فاطمة: 17/ 1/2008 هو تاريخ محفور في ذاكرتي للأبد في هذا اليوم كنت مكبلة اليدين والقدمين وحولي مجندات ومجندين إسرائيليين مدججين بالسلاح وأصرخ من آلام الولادة، لم يرحموا ضعفي حينها ولم تشفع لهم إنسانية الموقف أن يفكوا قدمي وأنا أوشك على الولادة تعبت كثيرا، ثم وضعوني في مستشفى بكفار سابا وشعرت بأمل حين جاءتني طبيبة فلسطينية من مناطق الـ 48 التي تحتلها إسرائيلي، ولكن سرعان ما استدعوها خارجا، وجاءتني طبيبة إسرائيلية حاقدة تجاهلتني وتركتني أعاني آلام الولادة دون أن تساعدني أو تحاول أن تهتم بالدماء التي أصبحت تحيط بي وبصراخي، فلم أجد غير الله الذي شعرت أنه يراني وأنا ألجأ له في لحظات موتي وحياتي، وقلبي يرتجف على الجنين في بطني خشية أن لا يبقى على قيد الحياة، وصرخت بي الطبيبة الإسرائيلية تستعجلني كي ألد، فقلت وسط ألمي ليس بيدي بل بيد الله، فتعدت بكلماتها على لفظ الجلالة، ولم أجد نفسي إلا وأنا أدعو الله عليها لينتقم منها، وما كادت تحاول الخروج من الغرفة حتى ضربت رأسها بالحائط بقوة فارتدت إلى الخلف لما يزيد عن المتر وهي تصرخ، ووجدتها تنهض وهي تتألم وتحضر الجلكوز والتخدير وتتوجه لي مباشرة ولم تمض نصف ساعة حتى كنت قد ولدت يوسف بحمد الله، ولم أكد أفيق حتى كبلوني مرة أخرى وسط دمي بالسرير وبالكاد رأيت يوسف فقد أخذوه للحضانة وفوضت أمري إلى الله"  وتكمل الزق: " عانيت وطفلي الأمرين داخل السجن فلا هواء ولا طعام صحي ولا رعاية صحية، ولا سرير للطفل، سجن بكل ما في الكلمة من معنى.. " ... فاطمة الزق غيبت الحضور بمرارة تجربتها وطفلها وبجانبي من اليمين الأسيرة المحررة فتحية زيارة تبكي وتمسح دموعها، ثم تعود تبكي وتتمتم ما بيحس بالجرح إلا صاحبه.. تعذبت أنا أيضا وعانيت الأمرين ولم نكد نجد من يناصرنا ويشعر بنا إلا الله. واصلت الأسيرات المحررات سرد معاناتهن وقصصهن التي يجب أن توثق وتنشر ليعرف العالم بأكمله ما عانته الأسيرات الفلسطينيات، ولا زالت تعانيه 36 أسيرة أخرى لازلن حتى اللحظة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ويعانين ويلات السجن وحدهن دون أي مساندة إلا من بعض الجهات الحقوقية، وهناك ما يزيد عن 7000 أسير فلسطيني يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي تحت التعذيب والتنكيل والقهر بعيدا عن أعين الكاميرات وبعيدا عن الإعلام المحلي والعربي والدولي الذي يجب أن ينتفض على نفسه ليكون إعلاما حرا قادرا على أن يسمع صوت الضحايا والمعذبين وليس إعلاما حزبيا يؤذن كل حزب لأصحابه وتضيع قضية الأسرى والأسيرات وتذوب في مشاحنات وصراعات لا قيمة لها إلا مزيدا من النكسة والخراب لكل الفلسطينيين.  لقد طرح جميل سرحان مدير الهيئة المستقلة في غزة على كافة المؤسسات الحقوقية والأهلية والنسوية أن تتبنى فعالية واحدة فقط في جدول أنشطتها وبرامجها الزخمة تتعلق بقضية الأسيرات الفلسطينيات والأسرى في سجون الاحتلال كي تبقى القضية مشتعلة وليست رهنا على مؤسسة واحدة فقط وهذا أقل واجب لهؤلاء المناضلات والمناضلين يمكن أن تقدمه مؤسسات المجتمع المدني. استمرت ورشة العمل التي اعتبرها جلسة مكاشفة ما بين آلام الأسيرات المحررات واحتياجاتهن الإنسانية في تصاعد وحماس كبير كونها تنطلق بوجود صاحباتها اللواتي أصبحن نساءا كبيرات في العمر ولهن تجربتهن التي لم يصغي لهن فيها الكثيرون، وهنا برز صوت أم علي حجازي متحدثة باسم كل الأسيرات المحررات لتوجه سؤالا صارخا: ماذا قدمت لنا السلطة القديمة والسلطة الجديدة؟؟ لم ينظر لنا أحد فأقصى ما نالته بعض الأسيرات القدامى كانت تحت بند بطالة لمرة واحدة والكثيرات لم يحظين بها أساسا؟ هل هذا يكفي للأسيرة دواءا ويقيها ذل السؤال بعد أن أفنت عمرها في السجون وخرجت لتكون امرأة هرمة لا فرص لعمل أو لتعليم أو لحياة كريمة؟؟  تركت أم على الباب مفتوحا على سؤال مفتوح لتعلو أصوات الاسيرات المحررات مؤكدات أن لهن حقوقا يجب أن يراها الجميع، وأن حبا كبيرا حماهن حتى اللحظة لأجل فلسطين فلماذا لا ينظر لهن الآخرون بعين الحب..!! وأجد في كلمات د. مريم أبو دقة -مديرة جمعية الدراسات النسوية- خاتمة أنسب لقصة تراجيديا حين قالت:" مين ممكن يرجعلي شبابي وعمري اللي راح" والإجابة لا أحد يعيد شيئا ولا أحد يملك أن يعيد شيئا لذا قليلا من المحبة قليلا من الاحترام لهذه الجواهر التي بيننا.. ورفقا بهن وعمقا أكبر للقائمين على وسائل الإعلام الفلسطينية، كونوا معهن لا عليهن. هداية شمعون - فلسطين حاولتْ "أليس" أن تعيش عالمها الحقيقي لا المتخيل؛ غير أنها كلما أرادت العودة لعالمها الحقيقيِ كلما طعنتها كلماتُه وعيونُه وتلك النظرات الجوعى التي لم تفهمْها؛ لكنها كانت تخشاها، كان الصمت هو ملاذُها، ودموعُها تسبقها كلما طافت بها تلك اللحظات. "أليس" شابةٌ صغيرةٌ لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، جميلةُ الطلّة، مشاكسةٌ؛ تجري وتحاول التحليق كما الفراشات، هكذا رأت أفلام الصور المتحركة، وهكذا عاشت في ذهنها أسرارُ الطفولة، غير أن طفولتها لم تكن تحمل الفرح الطفوليّ فقط؛ فكثيراً ما طالتها تلك الأيادي الخشنة؛ لتسرق لذّتها المحرّمة في ساعات العتمة، وتكتمَ على أنفاسها يدٌ أخرى تحاول؛ المقاومة؛ الصراخ؛ إلا أن الجسد المنكبّ على رقّتها كان لها كحائطٍ صخري. تصحو عاجزةً عن التنفس، تقنع نفسها أنه أسوأ كابوس في حياتها، غير أن نظراتِ أبيها -التي ترمقها على طاولة الإفطار في الصباح مهددةً- توقظها من سُباتها، وتدركُ أنه عالمٌ حقيقيٌ، وأنه أبٌ حقيقيٌ وهي ابنةٌ حقيقيةٌ؛ غير أن الفكرة كلّها عجائبية؛ ولا تعني شيئاً حين تنطقها لأمها التي تُشيح بنظرها عنها، بل حين أطبقت عليها لحظة الألم صرخت؛ وصرخت؛ وصرخت: إنه أبي ..أبي.. أبي.. فلم تشعر إلا بسلك الهاتف يهوي على جسدها الصغير، ثم يهوى ويسلخها في ظهرها ويدها ووجهها.. وأمها الثائرةُ تهددها بنطق كلمةٍ أخرى فتُحرم من جامعتها وصديقاتها وحياتها..  مرّت ليلتان وعيناها مُحدّقتان في سقف غرفتها، أنفاسُها ترتفعُ حين تشعر بحركةٍ قادمةٍ من خارج غرفتها، البابُ غيرُ محكمِ الإغلاق، فكل مفاتيح الغرف مفقودة، يقف كالتمثال في وسط الغرفة، تنتفضُ وتُشهر سكيناً في وجهه: سأصرخ وأفضحك، سأنادي الجيران و.. ولم تكمل كلماتها؛ حتى كان قد أمسك بمعصمها وهوى على وجهها بصفعةٍ قويةٍ، وهُرع إلى خارج الغرفة. بكت كثيراً؛ وكادت تهرب من المنزل؛ إلا أن الخوف أسَرَها فلم تبرح مكانها.  "أليس" لم تعدْ تحتمل، وفكّرت في الانتحار كثيراً، غير أن خوفها من عقابِ السماء كان يمنعها من ذلك، لم تجدْ غير صديقتها في المدرسة؛ التي لاحظت شرودها وتعاستها فدعتها إلى بيتها، وفي غرفتها؛ أشارت "أليس" وقالت: "هذا سريري، وهنا يحاول أبي -بين الحين والآخر- أن يتحرّش بي..".  لم تكمل "أليس" كلماتها حتى فزعت صديقتها وأخذت في البكاء غير مصدقةٍ عالم "أليس" الحقيقي، كانت ترتجف؛ ثم هرولت من البيت خشيةً من والد صديقتها.. وجدت "أليس" نفسها وحيدةً مرةً أخرى.. ووجدت نفسها في مواجهة رغبات أبيها الدنيئة، لم تعدْ تفكرُ إلا في مستقبلها الذي فقد ملامحه، وفي محاولة إقناعِ نفسِها أنّ هذا الرجل ليس أباها, إنما هو زوجُ أمها، لذلك؛ يشتهيها..! أرادت أن تخلق لنفسها عالماً متخيلاً لا واقعي, فرأت نفسها معلمة رسمٍ تعلم الأطفال الصغار أن يطوروا موهبتهم في الرسم، وكيف يعبرون عن أنفسهم، ورأت صديقتها (التي هربت من منزلها ولم تعد تراها، وإذا لمحتها في الطريق غيرت مسارها) تشاركها أحلام الشباب؛ فتقضيان أوقاتهما معاً، وحين لاحت صورته أمامها؛ أفاقت من عالمها المتخيّل إلى عالمها الواقعي، وعادت لتناضل في سبيل حرية جسدها.. ولازالت تدفن آلامها وحيدةً بين أربعة جدرانٍ إلى الآن..!  "أليس" والعشرات مثلها يعشن في بلاد القشور، التي يتلفع فيها البعض بعباءة الدين والأخلاق وهم منها براء. "أليس" تُنتهك في عقر دارها؛ ومن أبيها، وربما أخيها أو عمها أو أبنائهم؛ ولا ينجدُها أحد، فهي –وحدها- التي تواجههم، وهي الوحيدة التي تتلقى طعنات خناجرهم؛ حمايةً لشرفٍ مسلوبٍ هم أول من سلبوه، وهي لا تملك سبيلاً سوى الصمت، ثم الصمت، أو الهرب، وإن نطقت؛ كشّروا عن أنيابهم ونعتوها بالعار، هي من تجلب العار لا هم..! من سيصدق "أليس"؟ أمها التي تحمل الثقافة الذكورية..؟ أم صديقتها التي خافت على نفسها..؟ من سيصدّق "أليس" في عالم الواقع..؟  أنا أوْلى من الغريب..! هي البطلةُ دون منازع، وهي المناضلةُ التي تعُدُّ الثواني والدقائق ليحفظها الله من شرّه، هي شابةٌ جميلةٌ خريجةٌ جامعيةٌ وتعمل في إحدى المؤسسات، يقول لها أبوها دون مقدمات: "أنا أولى فيكِ من الغريب.." يهز أكتافه.. تقول: "..أراه شيطاناً في ثوب إنسان، وأخشى لحظتها أنه ليس أبي، عيناه تصبحان شراً مستطيراً؛ فأجد نفسي أُمسك عصاً بجانبي أو لوحاً خشبياً أو أيّ شيءٍ بقربي وأضربه به وأصرخ، يهرول إخوتي فينهرهم ويدّعي أن رأسي عنيد وأني أرفض أن أُعدّ له قهوته، باب غرفتي لا يُغلقُ عليّ، أمي تغطيني بجسدها وهي تعرف ما يحاوله أبي؛ لكن ليس بيدها أن تفعل شيئاً، كثيراً ما ضربها رغم أن صحّتها ليست على ما يرام، يرفض أيّ عريسٍ يطرق بابي ويقول: أنا أولى من الغريب، سأجعلك تركعين عند قدميّ وترفضين أنت الزواج..".  تلك المناضلة التي تحارب المرض والجهل والتخلّف والشهوة كلّ ساعةٍ من يومها، ورغم ذلك فهي فتاةٌ ناجحةٌ في دراستها وعملها ووجودها خارج إطار الأسرة، هي فتاةٌ راقيةُ الخلق والأدب والدماثة، لا تراها إلا مبتسمةً، تبرقُ عيناها بالأمل لكلّ من يقابلها، ولا أحد يدرك الحرب التي عليها مواجهتها لحظة دخولها بيتها، لم تشكّ يوماً بنواياه، فلسانُه السليطُ وكلماتُه القذرةُ التي يُلقيها على مسامعها، بالإضافة لقسوته مع إخوتها الذكور الأصغر سناً؛ والذين يبرحهم ضرباً إن حاولوا الوقوف في وجهه. باتت ترى الحياة لا شيء لولا إيمانها بالله ودعواتها التي لا تتوقف في صلواتها أن يبعد شرّه عنها، وأن يسترها عن عينيه وعن المجتمع، هي صامدةٌ مناضلةٌ ولا تفيها الكلمات حقها..  تُرى..؛ كم فتاةٍ محتجزةٍ بين جدران بيتها؛ والذئاب تحاول أن تنهشها من أقرب المقربين..؟! إن الحديث عما هو مسكوتٌ عنه يثير غيظ الكثيرين، ويصبح الألم أكبر حين يقولون: "لا أصدق ما لا أراه.."!! و: "هذه مبالغات لا أساس لها من الصحة" إنها مبررات يحاول أن يلقيها الكثيرون على مسامع من يؤمن بوجود مثل هذه الحالات، لأن الحلول معقدة ومخيفة وستربك الوضع العائلي والمجتمعي بأسره، فيجد البعض أن الأسهل قتل الفتاة الضحية بدلاً من الدفاع عنها وحمايتها؛ لأنها الحلقة الأضعف، أو يحاولون إسكاتها وإبقاءها بلا أملٍ وبلا مستقبل، وحيدةً تعتقد أنها الضحية الوحيدة في هذا العالم التي تعرضت لمثل هذه الجريمة؛ فلا تجدُ ملاذاً غير الصمت. لقد أكدت العديد من الدراسات والأبحاث على وجود تحرّشات بالفتيات من قبل أقاربهن، وهي شكاوى باتت تجد طريقها لتكسر الصمت والتابوه الاجتماعي لما يتعلق بزنا المحارم أو سفاح القربى، وهنالك العديد من الدراسات التي كشفت المستور، وباتت الأرقام توضّح –بقوة- أن الكثيرين باتوا يكسرون عزلة الصمت، وأنهم يدركون أن هنالك الكثير من هذه الممارسات المسكوت عنها، من هنا؛ فقد أنجز "مركز شئون المرأة" في نهاية 2009 دراسةً حول تحديد أولويات قضايا النساء في قطاع غزة، وتمّ التوجّه باستمارة لـ400 رجل و400 امرأة، وتمّ سؤالهُم حول العديد من قضايا العنف؛ منها ما يتعلق بالتحرّش الجنسي وزنا المحارم؛ فقد أشارت 37.2% من النساء المشاركات في الدراسة أن النساء يتعرضن لسفاح القربى من أحد أفراد الأسرة، كما اتفقت أكثر من ثلث النساء 40.2% على الرأي والنص القائل أن "المرأة تتعرض لمحاولات التحرّش الجنسي" كما عبّرت نسبة من النساء عن الموافقة -وبدرجة شديدة- على انتشار هذه الانتهاكات في وسط المجتمع الفلسطيني، وذلك بنسبة 24.8%، أما رؤية الرجال في هذا الجانب؛ ففيها اعترافٌ واضحٌ وصريحٌ بوجود مثل هذه الانتهاكات؛ حيث عبّر 46.1% منهم أن هناك انتشاراً لمثل هذه الممارسات في المجتمع الفلسطيني. وتشير المعلومات لدى "جمعية المرأة العاملة" أن أكثر من 75% من حالات الاعتداءات الجنسية هي لنساء تربطهن صلةُ قرابةٍ مباشرةٍ مع المعتدي، كالأب، الأخ، العم، الخال، وأن الحالات الأخرى تكون قد ارتكبت من قبل أشخاص معروفين للضحية مثل: المعلم، الجار، السائق(1). وفي دراسة "القابضات على الجمر" التي قام بإعدادها "مركز شؤون المرأة"-غزة؛ فقد أشارت إلى أن حالات العنف الأسري المسجّلة في سجلات الشرطة الفلسطينية من شهر آيار 2004 وحتى آذار 2005 وصل عددها إلى 110 حالة في قطاع غزة، و154 حالة في الضفة الغربية؛ متضمنةً حالات تحرّش جنسي، ومحاولة اغتصاب، حالات اغتصاب فعلي، محاولة انتحار، حالات انتحار فعلية، شروع في القتل، قتل على خلفية ما يسمى بـ "شرف العائلة" . لقد عالجت الاتفاقيات والإعلانات الدولية مسألة الاعتداءات الجنسية ضد النساء داخل الأسرة ضمن الموضوع العام المتعلق بالعنف ضد النساء؛ والذي يتخذ أشكالاً عدةً منها: الاعتداءات الواقعة داخل الأسرة، ولا يوجد إعلان أو اتفاقية خاصة؛ فقد عالجت الاتفاقيات والإعلانات الدولية مسألة الاعتداءات الجنسية ضد النساء داخل الأسرة ضمن الموضوع العام المتعلق بالعنف ضد النساء؛ والذي يتخذ أشكالاً عدةً منها: الاعتداءات الواقعة داخل الأسرة، ولا يوجد إعلان أو اتفاقية خاصة متخصصة في هذا الموضوع، على الرغم من أن النتيجة التي يسلم بها في الفقرة 23 من مرفق قرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي رقم 15/1990 بأن "العنف ضد المرأة سواء في الأسرة أو المجتمع ظاهرة منتشرة تتخطى حدود الدخل والطبقة والثقافة، ويجب أن يُقابل بخطواتٍ عاجلةٍ وفاعلةٍ تمنع حدوثه". وقد ورد تعريفٌ للعنف الجنسي داخل الأسرة في الوثيقة الصادرة عن المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين عام 1995 (منشورات الأمم المتحدة، الفصل الأول، قرار رقم 1) ووفقا للمادة 2 من الإعلان فإن: "العنف ضد المرأة يشمل العنف البدني والجنسي والنفسي الذي يحدث في إطار الأسرة بما في ذلك التعدّي الجنسي على أطفال الأسرة الإناث". وقد استخدم قرار الجمعية العامة رقم 52/106 بشأن الطفلة الأنثى مصطلح "غشيان المحارم" للدلالة على الاعتداءات الجنسية على الطفلة داخل الأسرة، فقد حثّ القرارُ جميع الدول على سنّ وتنفيذ التشريعات التي تحمي الإناث من جميع أشكال العنف؛ بما في ذلك وأد البنات، وتشويه الأعضاء التناسلية للأنثى، وغشيان المحارم أو الاعتداء الجنسي والاستغلال الجنسي(2). إن هذه الجريمة من شأنها أن تزعزع الأمان الزائف الذي يحاول المجتمع -بعقليته الذكورية- أن يدّعي أنه يوفره من خلال إسكات صوت الضحية وتجاهل المعتدي؛ كونه ذكراً ولا يعيبه أن يُكرّر فعلته مرةً ومرةً أخرى، لكن من واجبنا أن نقرع جدران الصمت، ونخرق الخزان، ونرفع صوت الضحية عالياً؛ لتجد من يناصرها ويدافع عنها، ولنرفع عباءة الخوف والظلم المجحف بحقّهن؛ ليجدن يداً أمينةً تمتد لهن وسط حلكة الظلام. ــــــــــــــــــــــــــــــ (1) مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي 2001. (2) الاعتداءات الجنسية داخل الأسرة بين الواقع والقانون، دراسة قانونية اجتماعية، مركز الدراسات النسوية 2006.

هداية شمعون - فلسطين

حاولتْ "أليس" أن تعيش عالمها الحقيقي لا المتخيل؛ غير أنها كلما أرادت العودة لعالمها الحقيقيِ كلما طعنتها كلماتُه وعيونُه وتلك النظرات الجوعى التي لم تفهمْها؛ لكنها كانت تخشاها، كان الصمت هو ملاذُها، ودموعُها تسبقها كلما طافت بها تلك اللحظات. "أليس" شابةٌ صغيرةٌ لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، جميلةُ الطلّة، مشاكسةٌ؛ تجري وتحاول التحليق كما الفراشات، هكذا رأت أفلام الصور المتحركة، وهكذا عاشت في ذهنها أسرارُ الطفولة، غير أن طفولتها لم تكن تحمل الفرح الطفوليّ فقط؛ فكثيراً ما طالتها تلك الأيادي الخشنة؛ لتسرق لذّتها المحرّمة في ساعات العتمة، وتكتمَ على أنفاسها يدٌ أخرى تحاول؛ المقاومة؛ الصراخ؛ إلا أن الجسد المنكبّ على رقّتها كان لها كحائطٍ صخري. تصحو عاجزةً عن التنفس، تقنع نفسها أنه أسوأ كابوس في حياتها، غير أن نظراتِ أبيها -التي ترمقها على طاولة الإفطار في الصباح مهددةً- توقظها من سُباتها، وتدركُ أنه عالمٌ حقيقيٌ، وأنه أبٌ حقيقيٌ وهي ابنةٌ حقيقيةٌ؛ غير أن الفكرة كلّها عجائبية؛ ولا تعني شيئاً حين تنطقها لأمها التي تُشيح بنظرها عنها، بل حين أطبقت عليها لحظة الألم صرخت؛ وصرخت؛ وصرخت: إنه أبي ..أبي.. أبي.. فلم تشعر إلا بسلك الهاتف يهوي على جسدها الصغير، ثم يهوى ويسلخها في ظهرها ويدها ووجهها.. وأمها الثائرةُ تهددها بنطق كلمةٍ أخرى فتُحرم من جامعتها وصديقاتها وحياتها..

مرّت ليلتان وعيناها مُحدّقتان في سقف غرفتها، أنفاسُها ترتفعُ حين تشعر بحركةٍ قادمةٍ من خارج غرفتها، البابُ غيرُ محكمِ الإغلاق، فكل مفاتيح الغرف مفقودة، يقف كالتمثال في وسط الغرفة، تنتفضُ وتُشهر سكيناً في وجهه: سأصرخ وأفضحك، سأنادي الجيران و.. ولم تكمل كلماتها؛ حتى كان قد أمسك بمعصمها وهوى على وجهها بصفعةٍ قويةٍ، وهُرع إلى خارج الغرفة. بكت كثيراً؛ وكادت تهرب من المنزل؛ إلا أن الخوف أسَرَها فلم تبرح مكانها.

"أليس" لم تعدْ تحتمل، وفكّرت في الانتحار كثيراً، غير أن خوفها من عقابِ السماء كان يمنعها من ذلك، لم تجدْ غير صديقتها في المدرسة؛ التي لاحظت شرودها وتعاستها فدعتها إلى بيتها، وفي غرفتها؛ أشارت "أليس" وقالت: "هذا سريري، وهنا يحاول أبي -بين الحين والآخر- أن يتحرّش بي..".

لم تكمل "أليس" كلماتها حتى فزعت صديقتها وأخذت في البكاء غير مصدقةٍ عالم "أليس" الحقيقي، كانت ترتجف؛ ثم هرولت من البيت خشيةً من والد صديقتها..

وجدت "أليس" نفسها وحيدةً مرةً أخرى.. ووجدت نفسها في مواجهة رغبات أبيها الدنيئة، لم تعدْ تفكرُ إلا في مستقبلها الذي فقد ملامحه، وفي محاولة إقناعِ نفسِها أنّ هذا الرجل ليس أباها, إنما هو زوجُ أمها، لذلك؛ يشتهيها..! أرادت أن تخلق لنفسها عالماً متخيلاً لا واقعي, فرأت نفسها معلمة رسمٍ تعلم الأطفال الصغار أن يطوروا موهبتهم في الرسم، وكيف يعبرون عن أنفسهم، ورأت صديقتها (التي هربت من منزلها ولم تعد تراها، وإذا لمحتها في الطريق غيرت مسارها) تشاركها أحلام الشباب؛ فتقضيان أوقاتهما معاً، وحين لاحت صورته أمامها؛ أفاقت من عالمها المتخيّل إلى عالمها الواقعي، وعادت لتناضل في سبيل حرية جسدها.. ولازالت تدفن آلامها وحيدةً بين أربعة جدرانٍ إلى الآن..!

"أليس" والعشرات مثلها يعشن في بلاد القشور، التي يتلفع فيها البعض بعباءة الدين والأخلاق وهم منها براء. "أليس" تُنتهك في عقر دارها؛ ومن أبيها، وربما أخيها أو عمها أو أبنائهم؛ ولا ينجدُها أحد، فهي –وحدها- التي تواجههم، وهي الوحيدة التي تتلقى طعنات خناجرهم؛ حمايةً لشرفٍ مسلوبٍ هم أول من سلبوه، وهي لا تملك سبيلاً سوى الصمت، ثم الصمت، أو الهرب، وإن نطقت؛ كشّروا عن أنيابهم ونعتوها بالعار، هي من تجلب العار لا هم..! من سيصدق "أليس"؟ أمها التي تحمل الثقافة الذكورية..؟ أم صديقتها التي خافت على نفسها..؟ من سيصدّق "أليس" في عالم الواقع..؟

أنا أوْلى من الغريب..!

هي البطلةُ دون منازع، وهي المناضلةُ التي تعُدُّ الثواني والدقائق ليحفظها الله من شرّه، هي شابةٌ جميلةٌ خريجةٌ جامعيةٌ وتعمل في إحدى المؤسسات، يقول لها أبوها دون مقدمات: "أنا أولى فيكِ من الغريب.." يهز أكتافه.. تقول: "..أراه شيطاناً في ثوب إنسان، وأخشى لحظتها أنه ليس أبي، عيناه تصبحان شراً مستطيراً؛ فأجد نفسي أُمسك عصاً بجانبي أو لوحاً خشبياً أو أيّ شيءٍ بقربي وأضربه به وأصرخ، يهرول إخوتي فينهرهم ويدّعي أن رأسي عنيد وأني أرفض أن أُعدّ له قهوته، باب غرفتي لا يُغلقُ عليّ، أمي تغطيني بجسدها وهي تعرف ما يحاوله أبي؛ لكن ليس بيدها أن تفعل شيئاً، كثيراً ما ضربها رغم أن صحّتها ليست على ما يرام، يرفض أيّ عريسٍ يطرق بابي ويقول: أنا أولى من الغريب، سأجعلك تركعين عند قدميّ وترفضين أنت الزواج..".

تلك المناضلة التي تحارب المرض والجهل والتخلّف والشهوة كلّ ساعةٍ من يومها، ورغم ذلك فهي فتاةٌ ناجحةٌ في دراستها وعملها ووجودها خارج إطار الأسرة، هي فتاةٌ راقيةُ الخلق والأدب والدماثة، لا تراها إلا مبتسمةً، تبرقُ عيناها بالأمل لكلّ من يقابلها، ولا أحد يدرك الحرب التي عليها مواجهتها لحظة دخولها بيتها، لم تشكّ يوماً بنواياه، فلسانُه السليطُ وكلماتُه القذرةُ التي يُلقيها على مسامعها، بالإضافة لقسوته مع إخوتها الذكور الأصغر سناً؛ والذين يبرحهم ضرباً إن حاولوا الوقوف في وجهه. باتت ترى الحياة لا شيء لولا إيمانها بالله ودعواتها التي لا تتوقف في صلواتها أن يبعد شرّه عنها، وأن يسترها عن عينيه وعن المجتمع، هي صامدةٌ مناضلةٌ ولا تفيها الكلمات حقها..

تُرى..؛ كم فتاةٍ محتجزةٍ بين جدران بيتها؛ والذئاب تحاول أن تنهشها من أقرب المقربين..؟! إن الحديث عما هو مسكوتٌ عنه يثير غيظ الكثيرين، ويصبح الألم أكبر حين يقولون: "لا أصدق ما لا أراه.."!! و: "هذه مبالغات لا أساس لها من الصحة" إنها مبررات يحاول أن يلقيها الكثيرون على مسامع من يؤمن بوجود مثل هذه الحالات، لأن الحلول معقدة ومخيفة وستربك الوضع العائلي والمجتمعي بأسره، فيجد البعض أن الأسهل قتل الفتاة الضحية بدلاً من الدفاع عنها وحمايتها؛ لأنها الحلقة الأضعف، أو يحاولون إسكاتها وإبقاءها بلا أملٍ وبلا مستقبل، وحيدةً تعتقد أنها الضحية الوحيدة في هذا العالم التي تعرضت لمثل هذه الجريمة؛ فلا تجدُ ملاذاً غير الصمت.
لقد أكدت العديد من الدراسات والأبحاث على وجود تحرّشات بالفتيات من قبل أقاربهن، وهي شكاوى باتت تجد طريقها لتكسر الصمت والتابوه الاجتماعي لما يتعلق بزنا المحارم أو سفاح القربى، وهنالك العديد من الدراسات التي كشفت المستور، وباتت الأرقام توضّح –بقوة- أن الكثيرين باتوا يكسرون عزلة الصمت، وأنهم يدركون أن هنالك الكثير من هذه الممارسات المسكوت عنها، من هنا؛ فقد أنجز "مركز شئون المرأة" في نهاية 2009 دراسةً حول تحديد أولويات قضايا النساء في قطاع غزة، وتمّ التوجّه باستمارة لـ400 رجل و400 امرأة، وتمّ سؤالهُم حول العديد من قضايا العنف؛ منها ما يتعلق بالتحرّش الجنسي وزنا المحارم؛ فقد أشارت 37.2% من النساء المشاركات في الدراسة أن النساء يتعرضن لسفاح القربى من أحد أفراد الأسرة، كما اتفقت أكثر من ثلث النساء 40.2% على الرأي والنص القائل أن "المرأة تتعرض لمحاولات التحرّش الجنسي" كما عبّرت نسبة من النساء عن الموافقة -وبدرجة شديدة- على انتشار هذه الانتهاكات في وسط المجتمع الفلسطيني، وذلك بنسبة 24.8%، أما رؤية الرجال في هذا الجانب؛ ففيها اعترافٌ واضحٌ وصريحٌ بوجود مثل هذه الانتهاكات؛ حيث عبّر 46.1% منهم أن هناك انتشاراً لمثل هذه الممارسات في المجتمع الفلسطيني.
وتشير المعلومات لدى "جمعية المرأة العاملة" أن أكثر من 75% من حالات الاعتداءات الجنسية هي لنساء تربطهن صلةُ قرابةٍ مباشرةٍ مع المعتدي، كالأب، الأخ، العم، الخال، وأن الحالات الأخرى تكون قد ارتكبت من قبل أشخاص معروفين للضحية مثل: المعلم، الجار، السائق(1).
وفي دراسة "القابضات على الجمر" التي قام بإعدادها "مركز شؤون المرأة"-غزة؛ فقد أشارت إلى أن حالات العنف الأسري المسجّلة في سجلات الشرطة الفلسطينية من شهر آيار 2004 وحتى آذار 2005 وصل عددها إلى 110 حالة في قطاع غزة، و154 حالة في الضفة الغربية؛ متضمنةً حالات تحرّش جنسي، ومحاولة اغتصاب، حالات اغتصاب فعلي، محاولة انتحار، حالات انتحار فعلية، شروع في القتل، قتل على خلفية ما يسمى بـ "شرف العائلة" .
لقد عالجت الاتفاقيات والإعلانات الدولية مسألة الاعتداءات الجنسية ضد النساء داخل الأسرة ضمن الموضوع العام المتعلق بالعنف ضد النساء؛ والذي يتخذ أشكالاً عدةً منها: الاعتداءات الواقعة داخل الأسرة، ولا يوجد إعلان أو اتفاقية خاصة؛ فقد عالجت الاتفاقيات والإعلانات الدولية مسألة الاعتداءات الجنسية ضد النساء داخل الأسرة ضمن الموضوع العام المتعلق بالعنف ضد النساء؛ والذي يتخذ أشكالاً عدةً منها: الاعتداءات الواقعة داخل الأسرة، ولا يوجد إعلان أو اتفاقية خاصة متخصصة في هذا الموضوع، على الرغم من أن النتيجة التي يسلم بها في الفقرة 23 من مرفق قرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي رقم 15/1990 بأن "العنف ضد المرأة سواء في الأسرة أو المجتمع ظاهرة منتشرة تتخطى حدود الدخل والطبقة والثقافة، ويجب أن يُقابل بخطواتٍ عاجلةٍ وفاعلةٍ تمنع حدوثه".
وقد ورد تعريفٌ للعنف الجنسي داخل الأسرة في الوثيقة الصادرة عن المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين عام 1995 (منشورات الأمم المتحدة، الفصل الأول، قرار رقم 1) ووفقا للمادة 2 من الإعلان فإن: "العنف ضد المرأة يشمل العنف البدني والجنسي والنفسي الذي يحدث في إطار الأسرة بما في ذلك التعدّي الجنسي على أطفال الأسرة الإناث".
وقد استخدم قرار الجمعية العامة رقم 52/106 بشأن الطفلة الأنثى مصطلح "غشيان المحارم" للدلالة على الاعتداءات الجنسية على الطفلة داخل الأسرة، فقد حثّ القرارُ جميع الدول على سنّ وتنفيذ التشريعات التي تحمي الإناث من جميع أشكال العنف؛ بما في ذلك وأد البنات، وتشويه الأعضاء التناسلية للأنثى، وغشيان المحارم أو الاعتداء الجنسي والاستغلال الجنسي(2).
إن هذه الجريمة من شأنها أن تزعزع الأمان الزائف الذي يحاول المجتمع -بعقليته الذكورية- أن يدّعي أنه يوفره من خلال إسكات صوت الضحية وتجاهل المعتدي؛ كونه ذكراً ولا يعيبه أن يُكرّر فعلته مرةً ومرةً أخرى، لكن من واجبنا أن نقرع جدران الصمت، ونخرق الخزان، ونرفع صوت الضحية عالياً؛ لتجد من يناصرها ويدافع عنها، ولنرفع عباءة الخوف والظلم المجحف بحقّهن؛ ليجدن يداً أمينةً تمتد لهن وسط حلكة الظلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي 2001.
(2) الاعتداءات الجنسية داخل الأسرة بين الواقع والقانون، دراسة قانونية اجتماعية، مركز الدراسات النسوية 2006.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-