موظفات فوق العادة

أمل خيري - القاهرة اهتمامي بقضية عمل المرأة من المنزل بدأ منذ عدة أعوام حين كتبت عن تجربة رائدة من بنجلاديش كانت بعنوان(" بيتي مقر عملي" قصة نجاح لنساء من بنجلاديش)، ولكني لم أقم بنشر هذه الدراسة إلا قبل عامين لأفاجأ بعدها بعدد هائل من الرسائل التي تثني على هذه التجربة، وأمنيات كثيرة بتكرارها في عالمنا العربي، إلا أن هذه التجربة نفسها لم تجد صدى لدى بعض المتعلمات الحاصلات على مؤهلات عليا، باعتبار أن هذه التجربة تلائم العاملات اليدويات، خاصة أن النماذج الشبيهة لدينا في الدول العربية تكاد تقتصر على سيدات يعملن في الحياكة: الأشغال اليدوية، والتشكيلات الفنية، وحتى عندما توسعت التجارب دخل فيها سيدات يعملن بمساعدة الموظفات في تقشير الخضروات وتنظيفها وإعداد الصلصات والمربات، أو إعداد وجبات جاهزة أو نصف جاهزة أو خدمة توصيل المشتريات للمنازل أو ترويج مستحضرات التجميل بين المعارف والأصدقاء، ... إلخ.  أي أن ما يجمع بين كل هذه الأعمال أنها تعتمد على اليدين، والمجهود البدني، وتفتقر للمجهود العقلي، ويمكن أن تمارسها المتعلمة، وكذلك التي لم تنل حظا من التعليم. ثقافة التهميش كنت في زيارة لطبيب العيون لإجراء فحوصات فسألني الطبيب إن كنت أعمل أم لا؟ فأجبته بأني أعمل من المنزل، فعقد ما بين حاجبيه، وقال تقومين بالحياكة والتطريز إذن –قالها هكذا بصيغة الجزم- فصححت له المعلومة قائلة بل صحفية وباحثة، فرفع حاجبيه دهشة وبدا كأنه غير مصدق أو مستنكر. هذا الموقف تكرر كثيرا ليس بالنسبة لي فقط، بل لكثير من زميلاتي، فما إن تذكر إحداهن أنها تعمل من البيت حتى يتبادر لذهن المستمع أنها تعمل في الحياكة أو التطريز، أو ربما طاهية للوجبات الجاهزة. وفي المقابل ما إن تحدثت مع أحد من الدول الغربية أو حتى من دول شرق آسيا، وذكرت حقيقة أني أعمل من البيت حتى يكون السؤال: مترجمة أم كاتبة؟ ربما يعكس هذا التباين اختلافا في الثقافات والقناعات الفكرية والميراث التاريخي، كما أنه يوضح مقدار التهميش والتسطيح لدور المرأة العربية في ثقافتنا وفي مجتمعنا، فالمرأة لدينا إما أمية لا تقرأ ولا تكتب، أو تلقت قدرا من التعليم، ولكنها تقبع في بيتها بلا عمل كسولة خاملة غير منتجة، أو متعلمة عاملة تقضي في عملها ما لا يقل عن ثماني ساعات خارج البيت، ولا يوجد وسط بين الحالتين، بينما خارج الوطن العربي تنتشر نماذج كثيرة متعددة لعمل المرأة اعتاد عليها المجتمع، فهناك العمل بدوام كامل، والعمل لجزء من الوقت، والعمل بالقطعة أو بالمهمة، وكثيرا ما نرى زوجات وأمهات يعملن من خلال بيوتهن في مجال الأبحاث أو الكتابة، أو تصميم مواقع الإنترنت، أو التدريب من خلال الإنترنت بل وحتى التسويق.  تنميط الوظيفة الأمر لدينا هنا لا يقتصر على هذه النظرة القاصرة لعمل المرأة، واقتران فكرة عمل المرأة بنمط غربي مستورد يتضمن خروجها من البيت والعمل في مؤسسة أو شركة أو مصنع بدوام كامل، بل يمتد لثقافة أكثر شمولا تزدري دور المرأة في بيتها، ساهم في تأصيلها الإعلام بوسائله المختلفة من إذاعة وتليفزيون وصحف، فقد روجت المسلسلات والأفلام خلال أكثر من نصف قرن لنمط المرأة العاملة المنتجة مقابل ربة البيت المستهلكة، فكانت النتيجة الحتمية أن المجتمع بات ينظر للمرأة التي تفرغت لبيتها وأولادها على أنها طاقة معطلة في المجتمع، فوقتها مهدر، ودراستها ضاعت هباء، وعقلها قد توقف عن التفكير، وهي عاطفية ترجح العاطفة على العقل، وسطحية الفكر، ويتبع ذلك أن تكون شخصية منزوية غير مواكبة للأحداث، منفصلة عن الواقع لا تدري بتغيرات المجتمع، بينما المرأة العاملة واقعية عصرية مثقفة واسعة الاطلاع تشارك في تنمية ونهضة المجتمع. ولكي تكتمل الصورة فلابد للمرأة أن تودع أطفالها منذ ولادتهم إحدى دور الحضانات، أو تجلب لهم خادمة، أو تتركهم في رعاية بعض الأقارب لتعود من عملها منهكة تقضي باقي يومها في إعداد الطعام وترتيب البيت، وغالبا ما تعتمد أسرتها على تناول الوجبات الجاهزة.  الغريب في الأمر أننا استوردنا هذه الصورة النمطية لعمل المرأة من الغرب، وأغفلنا النماذج الأخرى لعمل المرأة لديهم، وهذه النماذج لا ترتبط بتواجد خارج البيت، ولا بإيداع الأطفال في الحضانات، ولا بشراء الوجبات الجاهزة، بل يكفي أن تخصص إحداهن لنفسها غرفة أو ركنا في البيت وتعد مكتبا، وجهاز كمبيوتر، وخزانات للأوراق والملفات، وكأنه مكتب عمل حقيقي، وحولها أطفالها تتابعهم وتشرف عليهم. فتشير تقارير مكتب الإحصاء الأمريكي إلى أنه بحلول عام 1992 بلغ عدد النساء العاملات من خلال المنزل 10 ملايين امرأة، ويشير المركز القومي لتحليل السياسات في الولايات المتحدة إلى أن حوالي 17 مليون امرأة تعمل من المنزل حتى عام 2008.  ووفق تقرير وكالة الاحصاءات الوطنية في المملكة المتحدة فإن 3,1 ملايين شخص يعملون من المنزل في عام 2005، يستخدم منهم 2,4 مليون شخص الكمبيوتر والهاتف كوسائط للعمل. وذكر تقرير لشبكة العمالة النسائية غير النظامية (WIEGO) أنه على الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة عن عدد العاملين عن بعد فإن المؤشرات تدل على أن هناك ما يزيد عن 100 مليون شخص في العالم يعملون من منازلهم، تشكل النساء منهم حوالي 80%، وأن أكثر من نصف هذا العدد في جنوب آسيا.  الحقيقة أن كل هذا شجعني على الشروع في الكتابة حول هذه التجربة، وهذا المفهوم الجديد لعمل المرأة ودورها في تنمية المجتمع، والتي ربما تغير من نظرة المجتمع السلبية تجاه المرأة. الأمر يحتاج لدراسة سلبيات وإيجابيات ووسائل وإستراتيجيات وغيرها الكثير للمساهمة في معاونة المرأة العربية الراغبة في العمل من المنزل على تلمس طريقها ووضع قدمها على بداية الطريق الصحيح.

أمل خيري - القاهرة

منذ بداية كتابة هذه اليوميات، توالت عليّ الكثير من الرسائل والمطالبات الملحة لحلول عملية، ونماذج واقعية لأعمال يمكن أن تمارس عن طريق المنزل، ووفق مفهوم العمل عن بعد.

ومع تقديري لهذه الحماسة التي أظهرتها الكثيرات من الراغبات في العمل من المنزل، إلا أنني لا أدعي امتلاك الحل السحري للجميع، فما يصلح لي ربما لا يصلح لغيري، وما يمكن لغيري القيام به قد أعجز عنه، ومع ذلك هناك الكثير من المجالات المفتوحة على مصراعيها للعمل عن بعد، وما على كل راغبة في العمل سوى انتقاء ما يناسبها، ويلائم ظروفها وإمكاناتها، ويوظف مهاراتها وخبراتها.

ولكي يكون الكلام واقعا ملموسا سأبدأ من تجربتي المتواضعة التي تعددت فيها مجالات العمل عبر سنوات حتى اخترت أحد المجالات وركزت فيه جهدي في الفترة الأخيرة.

فبدايتي كانت أثناء دراستي الجامعية، واستمرت بعد تخرجي، من خلال العمل كصحفية تحت التمرين في عدد من الصحف والمجلات العربية والإسلامية؛ كنت أجري الحوارات والتحقيقات، وأكتب تقارير وأرسلها عبر البريد، أو أسلمها لمقر الجريدة أو أحد الوسطاء، وكنت أحاول فيها دائما اختيار مجالات الكتابة التي لا تحتاج للانتقال الفوري لموقع الحدث، أو التي تتطلب تحركات كثيرة، ومعظمها كان يتم بالتليفون، أو بالمقابلات المرتبة أو غير المرتبة.

فأحيانا يفرض الحدث نفسه أثناء ركوب القطار، أو السير في الطريق، أو زيارة بعض الأصدقاء، أو الأقارب، أو حتى بين الجيران، لأبدأ في إجراء تحقيق أو كتابة تقرير عن ظاهرة ما أو حدث معين.

بالتأكيد ابتعدت عن الأخبار والتغطيات السياسية، وكان توجهي نحو الأبواب الاجتماعية التي ترصد الظواهر والمشكلات بعيدة المدى، والمتغلغلة في المجتمع، وليست الأحداث الطارئة أو المفتعلة؛ مما يسر لي التطرق لموضوعات تهم الناس على المدى الطويل، ويمكن قراءتها، والاستفادة منها، ولو بعد سنوات.

التوعية بالكتابة

الخطوة الثانية تمثلت في كتابة المقالات في مجالات متعددة، سواء المجال الدعوي، أو الاجتماعي، أو التنموي، أو الفكري، أو الثقافي... ولا أنكر الدور الذي لعبته شبكة الإنترنت معي؛ فقد يسرت سبل التواصل مع المواقع والصحف الأكثر انتشارا للكتابة، معظمها كتابات تطوعية ولكنها من باب خدمة المجتمع بالمشاركة في التوعية والتعليم.

وهذا فيه الرد على من يعتقد أن ممارس الصحافة والكتابة يجب أن يكون شخصا لا يهدأ ولا يسكن، يدور حول الأحداث في مواقعها، ولا يمكن العمل في هذا المجال من خلال المنزل، فالتجربة أثبتت أن العمل الصحفي له العديد من المجالات، منها: ما يتطلب الحركة الدءوب، ومنها ما لا يتطلب إلا إعمال الفكر خاصة إذا تعلق بترجمات أو عروض ومراجعات لكتب أو دراسات أو تقارير دولية...

تجربة أخرى عاصرت الكتابة الصحفية، وهي التدريب في مجال التنمية البشرية، والذي تتعدد مجالاته حسب التخصص فيمكن أن تقدم المرأة دورات تربوية للأمهات، وقد تكون دورات دعوية للداعيات أو تثقيفية، أو دورات تخصصية...، ومن جانبي اخترت الدورات التربوية والإدارية التي قدمتها في المدارس والجمعيات بشكل تطوعي، ولكن متى أرادت المرأة أن تحترف المجال، وأن تتكسب منه سيتيسر لها ذلك، طالما توافرت لها مهارات الإلقاء، وحصلت على تدريب متخصص متوازن.

تدريس وتحفيظ

ذكرني مجال التدريب بمهنة أخرى كنت أمارسها أثناء دراستي بشكل متفرق، وهي التدريس للأطفال في المراحل الابتدائية، فأحيانا كانت تلجأ لي بعض الأمهات لمساعدة أطفالها على الارتقاء بمستواهم الدراسي، أو تحسين مهارات الكتابة أو القراءة لديهم، فتبعث لي بأطفالها في بيتي، بل إن إحدى السيدات الأميات كانت تأتيني لأعلمها مبادئ القراءة والكتابة، وفي الحقيقة كنت أجد متعة كبيرة في ممارسة هذه الأعمال.

يضاف لذلك مسألة تحفيظ القرآن في البيوت، ذكرت لي إحدى صديقاتي أنها كانت تستعين بمحفظة تقوم بتحفيظها هي وثلاثة من الأبناء، وكانت تتقاضى شهريا مائة جنيه عن كل فرد من أفراد الأسرة، من جانبي لم أشأ التكسب من تعليم القرآن أو التجويد رغم إفتاء العلماء بإباحته؛ حيث كنت أعتبر أن قيامي بذلك هو دين أوفيه لأساتذتي الذين قاموا بتحفيظي بلا أجر، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، ولكنه ما زال بابا يمكن لكثير من النساء احترافه والتكسب المادي من خلاله، إضافة إلى الأجر الأخروي مع إخلاص النية لله تعالى.

كمبيوتر وترجمة

في بعض الفترات كنت أحتاج التفرغ التام لرعاية الأطفال، ولكني لم أشأ تضييع العمر، فانتهزت الفرصة لمواصلة دراستي، وفي الوقت نفسه تعرفت على مجال جديد وهو البرمجة، فتلقيت دورات متخصصة، وعلمت نفسي الكثير بأسلوب "self training"، مما وفر لي الفرصة لتقديم تدريب للفتيات والسيدات والأطفال أيضا من خلال البيت، أو الاتفاق مع بعض المراكز التدريبية للعمل عدد معين من الساعات أو تقديم دورات في الموعد الذي أحدده مقابل نسبة من رسوم الدورة التدريبية.

بقيت في هذا المجال سنوات، ولكني لم أشأ الاستمرار فيه، فعدت مرة أخرى للترجمة والكتابة الصحفية وإعداد الأبحاث والدراسات؛ استجابة لنوازع التخصص التي ظلت تلح علي لسنوات، وفي نفس الوقت لم تضيع سنوات دراسة الكمبيوتر هباء؛ حيث أفادتني التقنيات الحديثة هذه المرة في عملي خير فائدة، فانطلقت في مجال الإعلام الإلكتروني الذي لاءم كثيرا رغبتي في العمل من خلال البيت، ولعب الإنترنت دوره في تيسير تواصلي مع العديد من الجهات التي استفدت منها في الحصول على تدريبات إلكترونية ومصادر تعليمية، ومكنتني من التعرف على كثير من الزميلات اللاتي يعمل بنفس الأسلوب سواء في مجال الترجمة أو الدراسات أو الكتابة الصحفية التقليدية.

بالطبع تخلل هذه الأعمال فترات من العمل بدوام كامل، حين كانت تتهيأ الظروف لذلك، إلا أني كنت ما ألبث أن أعود مرة أخرى للعمل عن بعد، ووجدت فيه ضالتي، ووجدته الأنسب لي حتى الوقت الحالي، وإن كان هذا لا ينفي إمكانية العودة ثانية للعمل بدوام كامل في المستقبل، فالأمر يتسم لدي بالمرونة.

هذه مجرد أمثلة لأعمال يمكن أن تتم من خلال البيت، وكما ذكرت سابقا أؤكد على أن اختيار مجال العمل يختلف من شخص لآخر، فالمفترض أن يختار الشخص ما يناسبه ويلائم طبيعة شخصيته وميوله واتجاهاته، ويوافق خبراته ومهاراته الشخصية وظروفه العائلية، وغيرها من الاعتبارات محل الاهتمام، وفي مرات قادمة بإذن الله سأذكر تجارب واقعية أخرى لشخصيات نجحن في العمل عن بعد.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-