ليس سرابا

نسرين حسن - سوريا بعد قرون طويلة من تسييس للشرائع والقوانين لصالح سيادة الرجل على كل جوانب الحياة , اقتنعت المرأة بدورها الثانوي التابع للرجل وأصبحت لا ترى نفسها إلا فيه .. لطالما توقفت لأفكر .. ماهي نقطة البداية الصحيحة , لإعادة الصورة إلى شكلها الصحيح .. وكم يلزمنا لذلك .. بالطبع لا يلزمنا نفس عدد السنوات لإعادة الأمور إلى نصابها , و إن كان يلزمنا الكثير .. ولكن معطيات الحضارة و مفرزاتها من تكنولوجيا ووسائل اتصال من شأنها أن تختصر الوقت كثيراً , بشرط أن يقوم العمل على إدراك تام لحقيقة المشكلة و على خطة واضحة المعالم محددة الأجل سابقاً , محسوبة الخطوات , خطة تتضافر لها جهود المجتمع بكل جوانبه و في مقدمتها القطاعات المؤثرة من تربية وإعلام و دراما ..  ربما استطاعت اتفاقيات معينة كالسيداو وغيرها فرض تغييرات في قوانين وتشريعات بعض الدول لصالح المرأة ولكن وجود تحفظات على نقاط عديدة موجودة فيها يؤكد على أن المشكلة ليست في القانون وحده , وأن تغييره لا يمكن أن يشكل نقطة البداية . إن المشكلة الفعلية في المجتمعات وتركيبتها والمفاهيم التي باتت متجذّرة فيها , والدليل على ذلك أنه في أكثر البلدان تبنياً للديموقراطية ولأفكار المساواة بين الجنسين إنسانياً نجد إحصائيات تشير إلى أن ثلاث نساء يمتن شهرياً نتيجة العنف مثلاً على الرغم من وجود القوانين التي تمنع ذلك !  هذا إن دلّ على شيء فهو يدل على أننا أمام مشكلة موروث اجتماعي يحتاج إلى عمل كثير لمسحه من الفكر الجمعي وهذه هي في الحقيقة نقطة البداية السليمة . هذا الموروث الذي يتدرج ارتفاعاً من بلد إلى آخر ولا علاقة له بدرجة تدين المجتمع برأيي , إنه قضية نظرة أو نمط اجتماعي ربما ساعدت بعض الأديان على تكريسها بطريقة أو بأخرى ولكنها موجودة من قبل الأديان  و ربما علاقة الدين بهذه النظرة النمطية تبدأ مع سفر التكوين , وقصة الخلق و الخطيئة التي كرست المرأة كوسيلة متعة و إنجاب وكرمز للغواية والخطيئة , ولاقت هذه الفكرة إعجاب الكثير من الذكور الذين وجدوا ربما ضالتهم فيها أثناء سعيهم للحد من هيمنة المرأة و إلغاء الطابع الأمومي الذي ساد المجتمعات البدائية القديمة , إن جذور هذه القصة التي تعود إلى عصور الوثنية وتربطها بأساطير قديمة تؤكد أن القضية هي قضية صراع على السيادة داخل المنظومات المتعددة من أصغرها " الأسرة " إلى أكبرها "المجتمع " , ولاحقاً تم استخدام الدين لتحقيق هذه الغايات التي نجحت فعلا في تهميش المرأة و إبقائها تابعة للرجل في كل شيء . و حتى الوثائق التاريخية التي تتحدث عن الحقوق التي أعطيت للمرأة عبر العصور تتحدث عنها وكأنها منة , أو منحة .. وتعطي انطباعاً أن العلاقة بين المرأة والرجل كانت وما تزال علاقة حرب مستمرة لاحتلال الأولوية , حرب سلمت المرأة رايتها فيها بعد أن سلبت إرادتها عنوة مرة , ومرات بأسلوب ذكي يختصرها برحم وعاطفة .. لتصدق الكذبة .. و تصبح الكذبة جزءاً حقيقياً من شخصيتها مع مرور الزمن ..  نحن اليوم لسنا بصدد استعادة حقوق المرأة فقط , بل بصدد تغيير نظرتها هي إلى نفسها قبل أي شخص آخر , ومن ثم تعريفها بالمعنى الحقيقي لأنوثتها خارج إطار اللعبة " فلّة " و من ثم العمل على إزالة فكرة الصراع , و زرع مفهوم المساواة الجندرية والتكامل في الأدوار داخل الفكر الجمعي الإنساني . ولا يكفي أبداً أن نحاول تطبيق ما وضعه الآخرون لنا من اتفاقيات مهما كانت مهمة , بقدر ما نحن بحاجة إلى عمل ذي طابع محلي , تنتجه البيئة التي تحتاج إلى التغيير , وينفذه أبناؤها , و هذا ما يعول عليه أكثر من أي شيء آخر برأيي .  وبالعودة إلى القانون فإن كل الجهود المبعثرة هنا وهنا في سبيل استعادة بعض الحقوق قانونياً , مهددة بالزوال عند أول هزة تصيب المجتمع لأنها فرضت فرضاً , ولم تقم على أساس ثابت , ولكن الجهود التي تنصب على تنمية المجتمع الذي يمثل أرضية حاضنة لهذه القوانين تدريجياً و بآليات غير صدامية هي التي تؤسس لغد أفضل مبني على المساواة والاحترام , عندما ننجح في ذلك فإن الحقوق ستعود والقوانين ستتغير من تلقاء نفسها كنتيجة حتمية لتغير الواقع الذي يحتضنها .  إن لهذا العمل أدوات متعددة يجب أن تمتلك حتى نقول أن العمل جدي فعلا .. تبدأ هذه الأدوات بالمناهج المدرسية , مروراً بالدراما والإعلام وانتهاء ببرامج وألعاب الأطفال وهذه الأخيرة لا تقل خطورة أبداً عن سابقتها وقد أثبتت تأثيرها الكبير في فكر الأجيال العربية على مدى عصور بما زرعته فيها من عنف وسطحية في التفكير . إن الإحاطة بالعوامل ومحاولة معالجتها كما قلت ضروري جداً وهو الخطوة الأولى نحو أي تغيير ..  وحتى لا نسبح في الأحلام الوردية لا بد و أن نشير أن هذا العمل سيواجه صعوبات كبيرة في ظل عدم تعاون بعض الحكومات , و ممانعتها لأي تغيير يطرأ على المجتمع , وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع المرأة . وأخيرا أود أن أتطرق إلى النموذج السوري .. لعل هذا النموذج لا يمثل الأفضل على صعيد العالم العربي طبعا ولكنه برأيي يتجه نحو ذلك وما يميزه فعلاً هو رغبة صادقة من كلا الطرفين , دولة ومجتمع في التغيير , هذا التغيير الذي بدأ يأخذ خطواته الأولى على مهل , مراعياً الموروث الاجتماعي والحساسيات , والخلفيات المختلفة , ويمتلك فعلاً الأدوات الفاعلة لتحقيق ذلك , وهنا لا بد وأن أشير بكثير من الاحترام إلى أداة كانت من أهم الأدوات التي دفعت عجلة التغيير في المجتمع السوري , وهي الدراما السورية ..  لطالما كانت هذه الصناعة أحد أسباب اعتزازي بسوريتي , وأحد العوامل الناجعة لنشر الحضارة والمدنية بين أبناء سوريا والعالم العربي , وإحدى أهم القنوات التي أوصلت صوت المرأة و دافعت عن حقوقها , هذه الدراما الأنثى , التي تكامل فيها الجمال و الوعي , فأفرزت نماذج إبداعية من شأنها أن تنهض بمجتمع كامل . وأنا اليوم إذ أعنون عمودي الخاص ومادتي الأولى باسم أحد نماذج الدراما التي بشرت بواقع أجمل في سورية , أجدني مضطرة للانحناء أمام كل مبدع آمن و فكر وعمل بوضوح رؤية وثبات عزيمة للمساهمة في دفع عجلة الحضارة والمدنية في مجتمعنا , سواء فيما يتعلق بقضايا المرأة أو غيرها من القضايا المجتمعية .  وأختم بالقول : في سورية أمامنا اليوم الكثير من العمل لتحقيق الحلم , صحيح أنه بعيد بعض الشيء ولكنه " ليس سرابا "

نسرين حسن - سوريا

بعد قرون طويلة من تسييس للشرائع والقوانين لصالح سيادة الرجل على كل جوانب الحياة , اقتنعت المرأة بدورها الثانوي التابع للرجل وأصبحت لا ترى نفسها إلا فيه ..
لطالما توقفت لأفكر .. ماهي نقطة البداية الصحيحة , لإعادة الصورة إلى شكلها الصحيح .. وكم يلزمنا لذلك ..

بالطبع لا يلزمنا نفس عدد السنوات لإعادة الأمور إلى نصابها , و إن كان يلزمنا الكثير .. ولكن معطيات الحضارة و مفرزاتها من تكنولوجيا ووسائل اتصال من شأنها أن تختصر الوقت كثيراً , بشرط أن يقوم العمل على إدراك تام لحقيقة المشكلة و على خطة واضحة المعالم محددة الأجل سابقاً , محسوبة الخطوات , خطة تتضافر لها جهود المجتمع بكل جوانبه و في مقدمتها القطاعات المؤثرة من تربية وإعلام و دراما ..

ربما استطاعت اتفاقيات معينة كالسيداو وغيرها فرض تغييرات في قوانين وتشريعات بعض الدول لصالح المرأة ولكن وجود تحفظات على نقاط عديدة موجودة فيها يؤكد على أن المشكلة ليست في القانون وحده , وأن تغييره لا يمكن أن يشكل نقطة البداية .

إن المشكلة الفعلية في المجتمعات وتركيبتها والمفاهيم التي باتت متجذّرة فيها , والدليل على ذلك أنه في أكثر البلدان تبنياً للديموقراطية ولأفكار المساواة بين الجنسين إنسانياً نجد إحصائيات تشير إلى أن ثلاث نساء يمتن شهرياً نتيجة العنف مثلاً على الرغم من وجود القوانين التي تمنع ذلك !

هذا إن دلّ على شيء فهو يدل على أننا أمام مشكلة موروث اجتماعي يحتاج إلى عمل كثير لمسحه من الفكر الجمعي وهذه هي في الحقيقة نقطة البداية السليمة .

هذا الموروث الذي يتدرج ارتفاعاً من بلد إلى آخر ولا علاقة له بدرجة تدين المجتمع برأيي , إنه قضية نظرة أو نمط اجتماعي ربما ساعدت بعض الأديان على تكريسها بطريقة أو بأخرى ولكنها موجودة من قبل الأديان

و ربما علاقة الدين بهذه النظرة النمطية تبدأ مع سفر التكوين , وقصة الخلق و الخطيئة التي كرست المرأة كوسيلة متعة و إنجاب وكرمز للغواية والخطيئة , ولاقت هذه الفكرة إعجاب الكثير من الذكور الذين وجدوا ربما ضالتهم فيها أثناء سعيهم للحد من هيمنة المرأة و إلغاء الطابع الأمومي الذي ساد المجتمعات البدائية القديمة , إن جذور هذه القصة التي تعود إلى عصور الوثنية وتربطها بأساطير قديمة تؤكد أن القضية هي قضية صراع على السيادة داخل المنظومات المتعددة من أصغرها " الأسرة " إلى أكبرها "المجتمع " ,
ولاحقاً تم استخدام الدين لتحقيق هذه الغايات التي نجحت فعلا في تهميش المرأة و إبقائها تابعة للرجل في كل شيء .

و حتى الوثائق التاريخية التي تتحدث عن الحقوق التي أعطيت للمرأة عبر العصور تتحدث عنها وكأنها منة , أو منحة .. وتعطي انطباعاً أن العلاقة بين المرأة والرجل كانت وما تزال علاقة حرب مستمرة لاحتلال الأولوية , حرب سلمت المرأة رايتها فيها بعد أن سلبت إرادتها عنوة مرة , ومرات بأسلوب ذكي يختصرها برحم وعاطفة .. لتصدق الكذبة .. و تصبح الكذبة جزءاً حقيقياً من شخصيتها مع مرور الزمن ..

نحن اليوم لسنا بصدد استعادة حقوق المرأة فقط , بل بصدد تغيير نظرتها هي إلى نفسها قبل أي شخص آخر , ومن ثم تعريفها بالمعنى الحقيقي لأنوثتها خارج إطار اللعبة " فلّة " و من ثم العمل على إزالة فكرة الصراع , و زرع مفهوم المساواة الجندرية والتكامل في الأدوار داخل الفكر الجمعي الإنساني .

ولا يكفي أبداً أن نحاول تطبيق ما وضعه الآخرون لنا من اتفاقيات مهما كانت مهمة , بقدر ما نحن بحاجة إلى عمل ذي طابع محلي , تنتجه البيئة التي تحتاج إلى التغيير , وينفذه أبناؤها , و هذا ما يعول عليه أكثر من أي شيء آخر برأيي .

وبالعودة إلى القانون فإن كل الجهود المبعثرة هنا وهنا في سبيل استعادة بعض الحقوق قانونياً , مهددة بالزوال عند أول هزة تصيب المجتمع لأنها فرضت فرضاً , ولم تقم على أساس ثابت , ولكن الجهود التي تنصب على تنمية المجتمع الذي يمثل أرضية حاضنة لهذه القوانين تدريجياً و بآليات غير صدامية هي التي تؤسس لغد أفضل مبني على المساواة والاحترام , عندما ننجح في ذلك فإن الحقوق ستعود والقوانين ستتغير من تلقاء نفسها كنتيجة حتمية لتغير الواقع الذي يحتضنها .

إن لهذا العمل أدوات متعددة يجب أن تمتلك حتى نقول أن العمل جدي فعلا .. تبدأ هذه الأدوات بالمناهج المدرسية , مروراً بالدراما والإعلام وانتهاء ببرامج وألعاب الأطفال وهذه الأخيرة لا تقل خطورة أبداً عن سابقتها وقد أثبتت تأثيرها الكبير في فكر الأجيال العربية على مدى عصور بما زرعته فيها من عنف وسطحية في التفكير .

إن الإحاطة بالعوامل ومحاولة معالجتها كما قلت ضروري جداً وهو الخطوة الأولى نحو أي تغيير ..

وحتى لا نسبح في الأحلام الوردية لا بد و أن نشير أن هذا العمل سيواجه صعوبات كبيرة في ظل عدم تعاون بعض الحكومات , و ممانعتها لأي تغيير يطرأ على المجتمع , وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع المرأة .

وأخيرا أود أن أتطرق إلى النموذج السوري .. لعل هذا النموذج لا يمثل الأفضل على صعيد العالم العربي طبعا ولكنه برأيي يتجه نحو ذلك وما يميزه فعلاً هو رغبة صادقة من كلا الطرفين , دولة ومجتمع في التغيير , هذا التغيير الذي بدأ يأخذ خطواته الأولى على مهل , مراعياً الموروث الاجتماعي والحساسيات , والخلفيات المختلفة , ويمتلك فعلاً الأدوات الفاعلة لتحقيق ذلك , وهنا لا بد وأن أشير بكثير من الاحترام إلى أداة كانت من أهم الأدوات التي دفعت عجلة التغيير في المجتمع السوري , وهي الدراما السورية ..

لطالما كانت هذه الصناعة أحد أسباب اعتزازي بسوريتي , وأحد العوامل الناجعة لنشر الحضارة والمدنية بين أبناء سوريا والعالم العربي , وإحدى أهم القنوات التي أوصلت صوت المرأة و دافعت عن حقوقها , هذه الدراما الأنثى , التي تكامل فيها الجمال و الوعي , فأفرزت نماذج إبداعية من شأنها أن تنهض بمجتمع كامل . وأنا اليوم إذ أعنون عمودي الخاص ومادتي الأولى باسم أحد نماذج الدراما التي بشرت بواقع أجمل في سورية , أجدني مضطرة للانحناء أمام كل مبدع آمن و فكر وعمل بوضوح رؤية وثبات عزيمة للمساهمة في دفع عجلة الحضارة والمدنية في مجتمعنا , سواء فيما يتعلق بقضايا المرأة أو غيرها من القضايا المجتمعية .

وأختم بالقول : في سورية أمامنا اليوم الكثير من العمل لتحقيق الحلم , صحيح أنه بعيد بعض الشيء ولكنه " ليس سرابا "
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-