الأديبة والشاعرة : دورين نصر سعد - لبنان - خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "
لا يفوت الناظر في هذا النّصّ الروائي أن يلحظ قيام بنية السّرد على تعدّد الرواة والأصوات في الرواية. كلّ راوٍ يروي بضمير المتكلّم ويرى الأحداث من وجهة نظره، ما يجعلنا نتساءل: هل تشظّت بنية السّرد بفعل تعدّد الرواة أو انتظمت المتتاليات السرديّة ضمن وحدة سرديّة كبرى؟
كلّ راوٍ يُمسك بزمام حدث، فتنتقل الرواية من حكيم بن غريب جوّال، ابن مريم، إلى غريب جوّال الزوج ووالد حكيم وجودي، ثمّ نُصغي في القسم الثالث إلى صوت مريم الحاضرة الغائبة في الرواية. أمّا القسم الرابع، فترويه جودي الابنة التي فقدت زوجها بسبب انفجار مرفأ بيروت. وكلّ أفراد العائلة يبحثون عن لغزٍ، وهو موت مريم التي تمّ اغتضابها، وقتلها. يُصرّ الوالد على إخراج جثّتها من القبر للتحقيق في سبب وفاتها، فإذا بالقبر فارغ إلاّ من الكفن.
كلّ هذه المعطيات تجعل الناقد يُعيد النّظر في أجهزته النقديّة وتفرض عليه أدوات جديدة تنسجم مع بنيتها. فالكاتبة هدى تطرح مشكلة الهوية، والحفر في الجذور من خلال شخصيّتين رئيسيّتين هما: مريم "المقتولة" بظروف غامضة، (وكنت أفضّل عدم تخصيص فصل بصوتها لأنّها حضرت في كلّ الرواية على لسان الرواة)، ودانيال الذي قُتل بانفجار مرفأ بيروت وهو شهيد الوطن.
بالتالي ينقل النّصّ الروائي في عمليّة الاستحضار والتغييب وضعيّة الذات في تنازعها، إذ جاء في الرواية ص (60) "واقفٌ أنا أنظرها بهدوء العابد الواثق لا يتطرّق، إلى تلافيق دماغه، شكّ أو ارتياب .كلّ ما حولي هادئ مُشعّ رصين. قلبي وحده صائلٌ في صدري متحفّز وثّاب".
وتجدر الإشارة بأنّ الفضاء الروائي للشخصيّات شديد التعقيد، وكأنّ وراء كلّ شخصيّة قصّة إمّا ظاهرة وإمّا مُحتجبة، ما يشير إلى وجود فجوات يُترك للمتلقّي الكشف عنها. كلّ الشخصيّات مرتبطة بـ "مريم"، ما يجعلنا نتعامل معها وفق منهج غريماس؛ إذ لكلّ شخصيّة وظيفة، وكلّ شخصيّة تشكّل متتالية بنيويّة مع مريم، وكلّ متتالية تنطوي على حدث، نذكر على سبيل المثال اتّصال أنسي بأخيه غريب، كذلك حين صدمت المرأة سيّارة غريب بهدف استدراجه إلى المنزل حيث سيتولّى زوجها مهمّة التحقيق.
بالتالي، إنّ اتّساع جغرافيّة المكان، وازدحام الرواية بالشخصيّات المساعدة والمضادّة، والموازية قد أسهم في تعدّد الأحداث وأدّى إلى تعدّد الأصوات وتعدّد الوظائف. ما ساعد في إغناء البنية التحتيّة للرواية على الرغم من أنّنا نشعر بتشظّي الأحداث في بعض الأحيان، إذ يأخذ بعضها حيّزًا من القول أكبر من سواها، أو اهتمامًا من قبل الراوي أكثر ممّا عداها أو دونها. مثلاً، نتبيّن في الفصل الأوّل إسهابًا في الوصف وفي تقديم المعلومات، أمّا الفصل الذي يتحدّث عن علاقة مريم بالسّلطة فتحاول الكاتبة أن تحجُب بعض التفاصيل تاركةً للمتلقّي مهمّة الكشف عن المسكوت عنه.
إنّ هذه المكوّنات، هي مجموعة رؤى مستقلّة، لكنّها صارت جزءًا من النظام الروائي، وقد احتجبت هدى عيد وراء الشخصيّات لتقدّم وجهة نظرها هي لا سيّما أنّها كتبت الرواية بعد انفجار مرفأ بيروت. وكأنّها تحاول تقويض الأساليب المعهودة في النصوص الروائيّة، وتسعى إلى تأسيس أخرى متلائمة والرؤية التمرديّة للسلطة، فتتقدّم المشهديّة في النّصّ الروائي كشهادة حيّة على الواقع المقموع وعلى بؤس المثقّف معًا، ما يشكّل إدانة صارخة للسلطة المستبدّة القاهرة وللفئات المضطهدة المظلومة ولدور المثقفين في خِضمّ الصراعات المحتدمة المتلاحمة. فهدى عيد تحاول أن تمارس في هذه الرواية فِعل التفكيك، تفكيك ما هو إيديولوجي وإعادة إنتاجه من جديد.
إضافةً إلى ذلك عكست هذه الرواية وعي الكاتبة بمفهومي المتخيّل، والواقعي، فانعكست البنى الاجتماعيّة في بنية الرواية. والواقع إنّ الأهميّة المعطاة هنا ليست لمضمون القص، وإنّما قيمتها في نسج هذه الحكاية، في نسج عقدتها (بحلّ أو بغير حلّ).
وهذا النّصّ الروائي الذي تمحور حول اختفاء مريم، يبقى مُبهمًا كفعل الاختفاء، يبقى حذرًا من التورّط الذي يدفعه الإخبار إليه، فيلقيه إلى القارئ. فهل تريد هدى عيد التخلّص من ورطة خبر اختفاء مريم بدفعه إلى القارئ؟ أو تريد أن تسلّط الضوء على شخصيّة مريم المعادل الموضوعي للوطن المفقود؟