الواقعية ، والطنطاوي وتوبة رمضان

الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا يقول الله تعالى : {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 1-6]. والمقصود بالليلة المباركة كما لا يخفى على أحد ، ليلة القدر ، التي نزل باسمها أيضا سورة كاملة بهذا الاسم مكوّنة من ثلاثين كلمة ، بعدد أيام الشهر الكريم ، ‘ إنها سورة القدر وهي ذات خمس آيات كريمة : {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر} . وفي سبب تسميتها بليلة القدر يذكر د\ العودة أقوالاً خمسة : لعظيم قدرها, وجلالة مكانتها عند الله عز وجل وكثرة مغفرة الذنوب, وستر العيوب في هذه الليلة المباركة. قال الزهري: القدر العظمة من قولك: لفلان قدر. ويشهد له قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]. قال الخليل بن أحمد: إنه من الضيق أي هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون. ويشهد له قوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]. قال ابن قتيبة: إن القدر الحكم، كأن الأشياء تقدر فيها. ففيها يتم تقدير مقادير الخلائق على مدار العام, فيكتب فيها الأحياء والأموات, والناجون والهالكون, والسعداء والأشقياء, والعزيز والذليل, ويكتب فيها الجدب والقحط, وكل ما أراده الله تبارك وتعالى خلال سنة قمرية كاملة ، قال أبو بكر الوراق: لأن من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر. قال علي بن عبيد الله: لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، وتنزل فيها رحمة ذات قدر وملائكة ذوو قدر. ... والظاهر – والله أعلم - يرجح سبب التسمية بأن كتابة مقادير الخلائق إنما يكون في ليلة القدر: إذ ينقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ؛ ولذلك قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن الرجل ليمشي في الناس وقد رُفع في الأموات", ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: يفرق فيها أمر الدنيا من السنة إلى السنة (1)، فكأنها ليلة تصفية الحسابات واعتمادها لسنة قادمة ، إن جاز لنا التعبير ! وقد عَـمَّـى الاسلامُ موعدها لحكمةٍ وغايةٍ شرعيةٍ نبيلةٍ تتجلَّـى في الحثِّ على صالح الاعمال ومضاعفة النشاط الخيري وأعمال البر التي يُتَقرَّبُ بها إلى الله تعالى ... فترى المسـلمين يلتمسونها في أيام رمضان كلها ، في العشر الاواخر وفي الفرادى منها ، ومنهم من يرى موعدها في ليالٍ أخرى غير العشر الأخيرة ، ومنهم من يرى أن موعدها غير ثابت تتحول من سنة الى أخرى ، والله أعلم ... وفي لغة الجذور ، جاء في لسان العرب : القَـدَرُ : القَضاء المُوَفَّقُ . يقال: قَدَّرَ الإِله كذا تقديراً، وإِذا وافق الشيءُ الشيءَ قلت: جاءه قَدَرُه. وقال ابن سيده : القدْر ( باسكان الدال ) والقَدَرُ ( بفتح الدال ) : القضاء والحُكْم، وهو ما يُقَدِّره الله عز وجل من القضاء ويحكم به من الأُمور. قال الله عز وجل: {إنا أنزلناه في ليلة القدر { أي الحُكْمِ، كما قال تعالى: فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمر حكيم؛ وأَنشد الأَخفش لهُدْبَة بنِ خَشْرَمٍ :  أَلا يا لَقَوْمي للنوائبِ والقَــــــدْرِ ===وللأَمْرِ يأْتي المَرءَ من حيثُ لا يَدْري وللأَرْض كم من صالح قد تَوَدَّأَتْ ===عليه، فَوَارَتْــــهُ بلَمَّاعَــــــةٍ قَـفْـــــرِ فلا ذَا جَـــلالٍ هِبْنَــهُ لجَلالِــــــــه، ===ولا ذا ضَيـاعٍ هُــنَّ يَتْرُكْنَ للفَــقــــْرِ  (تودّأَت عليه أَي استوت عليه.) ،،، والقدر مبلغ كل شيء ، وهو أيضـاً التضييق ، من قوله تعالى: ((ومن قُـدِرَ عليه رزقَـه )) سورة الطلاق | 7 ؛ أَي ضُيِّقَ عليه، قال: وكذلك قوله: ((وأَما إِذا ما ابتلاه فَقَدَر عليه رزقه)) سورة الفجر \ 16 ؛ معنى فَقَدَر عليه فَضَيَّقَ عليه ، وهو تفسير التضييق الوارد في قصة سيدنا يونس : (( فظنَّ أنْ لن نقدر عليه )) سورة الانبياء \ 87 ، حين ترك نينوى البلدة التي أُرسِلَ إليها ، كان موقنا أنَّ الله لن يُضيّق عليه ... وفي الحديث المطهّـرفي رؤية الهلال : (صوموا لرؤيته وأَفطروا لرؤيته فإِن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له )، وفي حديث آخر: فإِن غم عليكم فأَكملوا العِدَّة ؛ وفي لفظ آخر : (( فأكملوا العدة ثلاثين يوماً )) وفي رواية أخرى : (( فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً )(2) قوله: فاقْدُرُوا له أَي قَدِّرُوا له عَدَدَ الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً، واللفظان وإن اختلفا يرجعان إِلى معنى واحد؛ وروي عن ابن شريح أَنه فسر قوله فاقْدُرُوا له أَي قَدِّرُوا له منازلَ القمر فإِنها تدلكم وتبين لكم أَن الشهر تسع وعشرون أَو ثلاثون يوما ، قال: وهذا خطاب لمن خصه الله تعالى بهذا العلم؛ قال: وقوله فأَكْمِلُوا العِدَّة خطاب العامَّة التي لا تحسن تقدير المنازل ، وهذا نظير النازلة تنزل بالعالِمِ الذي أَمر بالاجتهاد فيها وأَن لا يُقَلِّدَ العلماء أَشكال النازلة به حتى يتبين له الصوب كما بان لهم، وأَما العامة التي لا اجتهاد لها فلها تقليد أَهل العلم؛ قال: والقول الأَول أَصح؛ وقال الشاعر إِياس بن مالك بن عبد الله المُعَنَّى :  كِلا ثَقَلَيْنــا طامــعٌ بغنِيمـــــــةٍ ، ===وقد قَدَر الرحمنُ ما هو قـــادِرُ فلم أَرَ يوماً كانَ أَكثَرَ ســـالِبــــــاً ===ومُسْتَلَباً سِــــرْبالَه لا يُناكِــــــرُ وأَكثَرَ مِنَّا يافِعاً يَبْتَغِي العُلـــــى ،=== يُضارِبُ قِرْناً دارِعاً وهو حاسِرُ  قوله : ما هو قادرُ أَي مُقَـدِّرٌ، وثَقَـلُ الرجل ، بالثاء: حَشَمه ومتاع بيته، وأَراد بالثَّقَل ههنا النساء أَي نساؤنا ونساؤهم طامعـات في ظهور كل واحد من الحَيَّيْنِ على صاحبه والأَمر في ذلك جارٍ على قـدر الرحمن. ،، وأقول : ان الجذر الثلاثي ( ق د ر ) يشير إلى الشرف العظيم والمقدار معا ، فصاحب القدر الرفيع وصل إلى قدره الذي يجلّه الناس به ، وبالمقابل صاحب القدر الوضيع لا يتعدى قدره الذي يذمه الناس به ، فالقدر شريف أو غير شريف مثله مثل الضمير تماما ، ضمير طيب وآخـر خبيث سيء، وكانت الوالدة – عافاها الله – تعلمني كيفية الطبخ ، لما كنت طالبا جامعيا ، فتقول ضع الماء في القِدر الصغير وأضف اليه البرغل بقَدَرٍ معين وعلامة هذا القدر هو أن تقف الملعقة بمفردها في وسط القِـدْر ، ومن ذلك اليوم عرفت أن لكلٍّ منا قدره الثابت لا يتعدّاه ، ولكل أسـرة قِـدْرها الخاص المتناسب مع حجم العائلة ، العائلة الكبيرة لها قِـدْر كبير وللصغيرة قِــدْر صغير ، وهكذا .... ومن هنا سرُّ تسمية الطنجرة المعدّة للطهي ( قِــدْر ) والجمع قدور ...  وفي ليلة القدر يصل كل مسلم الى قَدْره في العبادة ، وينال فيها قَـدْر عبادته واخلاصـه وطاعته ، وأزعم أنها سُـمّيت بليلة القدر من هذه الزاوية حيث يعود العابدون الى مقاديرهم في العمل والطاعة ، وينالون مقاديرهم من الثواب والأجـر ، والله أعلم ...ويؤيد منحانا هذا في الاستدلال ، ما أورده ابن فارس صاحب مقاييس اللغة ، في كتابه ( مادة \ ق د ر ) : القاف والدال والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على مَبْلَغ الشَّيء وكُنهه ونهايته. م فالقدر بلغُ كلِّ شيء. يقال: قَدْرُه كذا، أي مبلغُه.( بدال ساكنة ) ، وكذلك القدر ( بفتح الدال ) . وقَدَرتُ الشّيءَ أَقْدِرُه وأَقْدُرُه من التقدير، وقدَّرته أُقَدِّره. ، والقَدْر قضاء الله تعالى الأشياءَ على مبالغها ونهاياتها التي أرادَها لها، وهو القًدَر أيضاً. ومن اركان الايمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى . ، كما يشهد لنا قول العرب :  قَدَرْتُ عليه الثوبَ قَدْراً فانْقَدَرَ، أي جاء على المِقْدارِ. ويقال: بين أرضك وأرضِ فلانٍ ليلةٌ وقادِرَةٌ، إذا كانت ليِّنةَ السيرِ، مثل قاصدُةٍ ورافِهَةٍ. ويشهد لنا أيضا من التنزيل العزيز : ((على المُوسِعِ قَدَرُه وعلى المُقْتِرِ قَدَرُه )) ؛ قال الفراء: قُـرئ قَـدَرُه وقَدْرُه، قال: ولو نصب كان صواباً على تكرر الفعل في النية، أَي ليُعْطِ المُوسِعُ قَدْرَه والمُقْتِرُ قَدْرَه؛ وقال الأخفش: على الموسع قدره أَي قدر طاقته وإمكاناته ؛  فالخلاصـة : إنّ ليلة القدر ليلة الشرف العظيم ينالهُ العابدون ، ويصلون فيها الى مقدار عظيم من البرّ والمغفرة والأجـر والثواب الجزيل ، يتوب الله عليهم ويرفع منازلهم ويحقق رجـاءهـم ويمحو حوبتهم ، وقد سـألت السيدة عائشة الصديقة بنت الصدّيق – رضي الله عنهما - رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عمَّ تقول إذا صادفت ليلة القدر ؟؟؟ فقال :  (( قولي : اللهم إنك عفوّ نحبُ العفو فاعفُ عني )) . رواه البخاري . حاشــية : (1) )رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (22/10)، وعبد الله بن أحمد في السنة (2/407)، وانظر الدر المنثور (5/739).: ( (2) الأول رواه مسلم في الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤيته برقم 1081 ، والنسائي في الصيام باب ذكر الاختلاف على عمر بن دينار برقم 2124 ، واللفظ له.، والثاني رواه البخاري في الصوم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم الهلال فصوموا " برقم 1909 . الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا نقصد بالعائلة الرمضانية تلك الحروف التي تشكل نسيج كلمة رمضان ، وهي : ( ر م ض ) ومنها رمضان ، الشهر المعظم ، الذي أنزل فيه القرآن الكريم والذي فرض الله علينا صيامه ، والرمض شدة الحر ، وحين ترمض الفصال صيفا وخاصة فوق رمال الصحراء العربية ندرك أكثر معاني الصيام في وقت القيظ . وحسب الجذاء الجذوري لهذه العائلة يتشكل معنا ستة الجذور التالية : (ض م ر) : ونقرأ فيه التضمير والضمر والضمير والمضمار ، من أشكال (الريجيم) القديمة عند العرب، وكان التضمير لإكساب الجسم رشاقة يمارس للخيل والأبل ، وللإنسان أيضا منعا من ترهل الجسم بسبب السمنة الزائدة . والصوم أهم وسيلة من وسائل التضمير . وفي لغة الجذور : الضُمْرُ والضُمُرُ: الهُزال وخفَّة اللحم. ضَمَرَ الفرس بالفتح يَضْمُر ضموراً. وضَمُرَ بالضم: لغة فيه. وأضْمَرْتُهُ أنا وضمَّرْتُهُ تضميرا، فاضطمر هو. الذي في وسطه بعض الانضمام. (م ر ض) : والمرض حالة اضطراب في مكونات الجسم ، وغالبا ما تكون كثرة الطعام سببا له ، وعلاجه غالبا بالحمية والصوم الجزئي أو الكلي ، والصوم الجزئي يعني الامتناع عن بعض أنواع الطعام ، مشاكلة مع التضمير و(الريجيم) . (ض ر م) : الضِرامُ بالكسر: اشتعال النار في الحَلفاء ونحوِها. والضِرامُ أيضاً: دُقاق الحطب الذي يُسرع اشتعالُ النار فيه. والضَرَمَةُ: السَعَفَةُ أو الشيحَةُ في طرَفها نارٌ. يقال: ما بها نافخ ضَرَمَةٍ، أي أحدٌ. والجمع ضَرَمٌ. والضَريمُ: الحريق. وضَرِمَ الشيء بالكسر: اشتدَّ حرُّه. وضَرِمَ الرجلُ، إذا اشتدَّ جوعه ، ولك أن تلاحظ هنا المصاهرة بين الجذر ( ض ر م) وما قبله من خلال شدة الحرارة المتولدة عن اتقاد النار . (ر ض م) : الرَضْمُ والرِضامُ: صخورٌ عظامٌ يُرْضَمُ بعضها فوقَ بعض في الأبنية، الواحدة رَضْمَةٌ. يقال رَضمَ عليه الصخرَ يَرْضِمُ بالكسر رَضْماً. ورَضَمَ فلانٌ بيتَه بالحجارة. والرضيم: البناء بالصخر. ورَضَمْتُ الأرضَ: أثرتُها للزرع. ورَضَمَ به الأرضَ، إذا جلَد به الأرض. ورَضَمَ البعيرُ بنفسه الأرض. وبرذون مَرْضومُ العصبِ: كأنّ عصبَه قد تشنَّج ، أي فيه مرض . وكذلك لنلاحظ قول العرب رضم الحجارة أي بناها كيفما اتفق بلا ترتيب ولا تنسيق وهو نوع من العمل نفعله على وهن بسبب المرض أو التعب أو العجز والكسل ، وهو ما يذكرنا بحالة الرجل الواهن والصائم والذي يخضع لحمية تضعف بدنه . (م ض ر) : وتطالعنا هنا المضيرة وهي طعام فقير بالمواد الغذائة ، حساء أو ثريد يسبب لمدمنه الهزال وهو ما يضعنا في صلب الجذور السابقة جميعها . قال صاحب اللسان : مَضَرَ اللَّبَنُ يَمْضُرُ مُضُوراً حَمُضَ وابْيَضَّ وكذلك النبيذ إِذا حَمُضَ ومَضَرَ اللبنُ أَي صار ماضِراً وهو الذي يَحْذِي اللسانَ قبل أَن يَرُوبَ ولبن مَضِيرٌ حامِضٌ شديد الحُموضة قال الليث يقال إِن مُضَر كان مُولَعاً بشربه فسمي مُضَرَ به قال ابن سيده مُضَرُ اسم رجل قيل سمي به لأَنه كان مولعاً بشرب اللبن الماضر وهو مُضَرُ بن نِزار بن مَعَدِّ بن عدنان وقيل سمي به لبياض لونه من مَضِيرة الطبيخ والمَضِيرَة مُرَيْقَة تطبخ بلبن وأَشياء وقيل هي طبيخ يتخذ من اللبن الماضر ، واللبن الماضر أقرب إلى الفساد وقيمته الغذائة متدنية، ومن هذه المعاني المجتمعة أخذ العرب اسم مضر للذكر واسم تماضر للأنثــى . وهكذا يتأكد لدينا مرّة بعد مرة سموّ لغة الضاد وشفافيتها ودقة معانيها من خلال الجدلية العلمية القائمة بين جذورها . هذا والله أعلم  الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا نعم لنستقبل شهر رمضـــــــــان ولنستبشــر به ، شهر القرآن الكريم شهــر الخير والإحسان والعتق من النار ، الذي فيه ليلة خير من ألف شهر . لنجدد فيه همّتنـــــا ونشاطنــــــــــــــا العقائدي فلقد كان هذا الشهر عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شهر العطاء والتضحية والفداء والانتصارات ، كانو يسارعون فيه بالخيرات ويتسابقون الى الفضائل وأعمال البرّ التب تنفع العباد والبلاد . وما كانت شدّة الحــرِّ أو البرد مانعا من هذا التسابق . ﻳﺮﻭﻯ ﻋﻦ ﺍﻷﺻﻤﻌﻲ ﺃﻧﻪ ﻗﺎﻝ : ﻫﺠﻢ ﻋﻠﻲ ﺷﻬﺮُ ﺭﻣﻀﺎﻥﻭﺃﻧﺎ ﺑﻤﻜﺔ المكرّمــــــــة ، ﻓﺨﺮﺟﺖ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻄﺎﺋﻒ ﻷﺻﻮﻡ ﺑﻬﺎ ، ﻫﺮﺑﺎً ﻣﻦ ﺣﺮِّ ﻣﻜﺔ , ﻓﻠﻘﻴﻨﻲ ﺃﻋﺮﺍﺑﻲ , ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ : ﺃﻳﻦ ﺗﺮﻳﺪ ? ﻓﻘﺎﻝ : ﺃﺭﻳﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﻠﺪ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻙ ؛ ﻷﺻﻮﻡ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﻬﺮ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻙ ﻓﻴﻪ . ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ : ﺃﻣﺎ ﺗﺨﺎﻑ ﺍﻟﺤﺮَّ ؟ ﻓﻘﺎﻝ: ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺮِّ ﺃﻓﺮُّ . ‏(ﻳﻌﻨﻲ ﺣﺮَّ ﺟﻬﻨﻢ ‏). ‏(1) وكانوا يتبادلون التهاني بحلول الشهر الكريم مستنين بسيدنـــــــا محمد عليه الصلاة والسلام ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله ﷺ يُبَشِّر أصحابه بقدوم رمضان يقول: قد جاءكم شهر رمضان شهرٌ مبارك ، كتب الله عليكم صيامه ، فيه تفتح أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، من حُرِمَ خيرها فقد حُرِم.(2) . وقال الحافظ الفقيه ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى : قال بعض العلماء : هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان ، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران ، كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين ، من أين يشبه هذا الزمان زمان " اهـ (3) *لذا ينبغي الاستبشار والفرح بدخول رمضان واحياء السنة بتبشير والديكم واخوانكم والمسلمين وتهنئتهم بدخوله. ولنخصّ بذلك أحبّ الناس إلينا . وتبشير النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه برمضان يدل على العديد من الفوائد التي يمكن الإشارة إليها بإيجاز هنا وهي كما يلي: أولاً: أن تبشير النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة هو حث لهم على الاستعداد لشهر رمضان والتهيؤ للعمل الصالح وابتداء شهر رمضان بنشاط وهمة عالية. ثانياً: استحباب التبشير والتهنئة برمضان وكذلك بمواسم العبادات كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا دون أن يزيد المسلم على الوارد في السنة فلا تشرع الاحتفالات وإعداد الموائد عند بداية رمضان ابتهاجاً بقدومه لأن ذلك خلاف الوارد وهو التهنئة فقط سواء كانت تهنئة شفهية أو كتابية أو برسالة جوال أو بريد الكتروني أو غير ذلك من وسائل الاتصال وهنا ينبغي للمسلم أن يستشعر قيامه بسنة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يؤجر عليها وذلك على القول بأن التبشير هنا والتهنئة سنة وليست أمراً مباحا وهذا هو الأظهر لورود الدليل الصحيح بذلك. ثالثا: بيان النبي صلى الله عليه وسلم لبعض فضائل رمضان في هذا الحديث , كقوله: (أتاكم رمضان شهر مبارك) والبركة هنا مطلقة فتشمل البركة في أعمال البر وفي أعمال الدنيا كذلك كما هو مشاهد , وقوله صلى الله عليه وسلم: (فرض الله عز وجل عليكم صيامه) يدل على وجوب صيام رمضان وأن الناس تتفاضل في صيامه فمن صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).كما أن من لم يحفظ جوارحه فإن ذلك ينقص من أجر صيامه لما ثبت في صحبح البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم). فإن هذا فيه تحفيز للمسلم لكي يبادر بالعمل الصالح في رمضان , لاسيما وفضائل شهر رمضان هي أكثر من هذه المذكورة في هذا الحديث ولكن هذه بعض هذه الفضائل في هذا الشهر المبارك الذي هو خير الشهور وفرصة لمن أراد أن يعمل من الصالحات ويتقرب لرب الأرض والسماوات, قال ابن رجب رحمه الله: وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعاته يتقرّب بها إليه، ولله لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات. فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات[4]. أسأل الله تعالى أن يرزقنا في هذا الشهر الصيام والقيام إيماناً واحتساباً وأن يوفقنا لقيام ليلة القدر وعلى المبادر لكل عمل صالح يرضي عنا ربنا تبارك وتعالى. ============= حاشية : (1)- رَ : (ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﻭﺍﻷﺩﺏ‏) ﻟﻠﻤﺒﺮﺩ ‏( 1/163‏) (2)- الحديث رواه أحمد والنسائي وسنده صحيح (3)- لطائف المعارف (1/158). (4) مقال د. نهــار العتيبي الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا القارئ لعنوان مقالتنا المتواضعة هذه - للوهلة الأولــى - سيصاب بالدهشة ، فالعنوان هو على مبدأ أشقائنا المصريين إذا أرادوا التعبير عن المتناقضات فيقولون : ( سمك لبن على تمر هندي ) ، فما علاقة شيخنا الطنطاوي بالواقعية وما علاقة الواقعية بتوبة رمضان ؟؟؟ صبرأً يا قوم وتابعوا معنا لمعرفة الجواب وسرّ الخلطــة : يكتب بعض الأدباء قصصا يقولون أنها واقعية نقلا عن أمهاتهم وآبائهم وجداتهم ، وتاكيدا للواقعية في مسلكهم يسوقون المفردات العامية نفسها التي استخدمها الجد او الجدة ، وقد قرأت قصة من هذا النوع مرة لكاتب وسألته عن السر في الابقاء على الكلمات الفصحى كما هي فقال لي : كان من مدعاة تفكيري في تدوين هذه القصة أن أستخدمها في تنمية مدارك النشء، وربطهم بتلك المفردات الموغلة في الفصاحة، والتي صار جيلُ اليوم لا يعرفُ منها إلا النزرَ اليسير، حتى إذا ما ألفوا التعاملَ مع اللغة العربية الفصحى، حملهم هذا الإلفُ على محبة أفصح الفصيح؛ القرآن العظيم، والحديث النبوي الصحيح، فيقودهم ذلك للتفقه في الدين الحنيف. وقد صعب عليَّ جداً أن اعتمد في سردها منهج أرباب البيان من أهل العربية، ممن يركبون الخيال في صوغ وإنشاء القصص، لأن إطلاق العنان للقلم في مسارات الخيال لا تضمن معه السلامة من الكذب، خاصة وأن الخيال فرس جموح، وبحر طموح. ففضلت أن أنقل القصة كما سمعتها دون تزيُّدٍ، متبعاً في ذلك منهج علماء الحديث النبوي الشريف ممن يذهبون لقبول الرواية بالمعنى، مع الصرامة في التزام الدقة والصدق في النقل، مستخدماً الكلمات الفصيحة التي ذكرتها أمي أو جدتي ، معرباً لبعض كلامها العامي الآخر، غير زائد في المضمون .... ولقد ذكرني هذا الكاتب بهذا التعليل الجميل بما دونه الشيخ علي الطنطاوي ، فقيه الأدباء وأديب الفقهاء -رحمه الله- في مذكراته، إذ قال: ((ولي كتاب اسمه "قصصٌ من التاريخ" آخذُ فيه أسطُراً معدودةً، أو حادثةً محدودةً، فأُعمل فيها خيالي، وأجيل فيها قلمي، حتى أجعل منها قصة. بدأت بهذا العمل من سنة 1930م، من حين كنت أشتغل في جريدة "فتى العرب"، والقصص الأولى منشورة في كتابٍ لي نفِد من دهرٍ طويلٍ كان اسمه "الهيثميات". من هذه القصص ما ذكره المؤرخون من أن امرأة من دمشق رأت انقسامَ المسلمين، وتقاعسَهم عن قتال الصليبيين، وأرادت المشاركة في الجهاد، فعمِلت ما تقدر عليه؛ قصَّت ضفائرَها، وبعثت بها إلى سِبط ابن الجوزي (أي ابن ابنته) خطيب الجامع الأُموي في دمشق؛ ليكون منها قيدٌ لفرسٍ من خيول المجاهدين. ويقول المؤرِّخون: إنه خطب خطبةً عظيمة ألهبت الدماء في العروق، وأسالت الدموع من العيون، وأثارت الحماسة، وأيقظت الهِمَم، فلما كتبتُ القصة على طريقتي، ألَّفتُ أنا خطبةً قلتُ: إنها التي ألقاها على الناس. وحَسِبَ الناسُ أن هذه هي الخطبة الحقيقية، حتى إن خطيب المسجد الحرام الرجل الصالح الشيخ عبد الله خياط نقل فقرات منها في خطبة الجمعة على أنها خطبةُ سِبط ابن الجوزي)).اهـ. ثم أورد الشيخ الطنطاوي عقب هذه مباشرة قصة أخرى قال فيها: ((وكتبتُ مرةً قصصاً متخيلةً، عن أعرابي صحبنا في رحلة الحجاز، منها: ((أعرابي في الحمَّام))، ((أعرابي في سينما))، ((أعرابي ونقد الشعر))، وكلُها في كتابي ((صورٌ وخواطر))، قلت في الأخيرة منها: إن قبيلة على حدود اليمن اسمها (السوالم) لا تزال تنطق الفصحى، لم يدخل ألسنتها اللحن، ولا بلغتها العُجمة، وكان ذلك خيالاً مني، فأخذ ذلك الأستاذ وحيد جباوي، فوضعه في بحثٍ له عن الفصحى وعن اللحن، ونشر خلاصة منه في مجلة مجمع اللغة العربية.اهـ وللأسف لا يزال كثيرون يجزمون اليوم بأن هناك قبيلة يمانية على فطرتها ولا تزال تنطق الفصحى السليمة حتى الآن !!! وإنما يستشهدون بمقالة شيخنا الطنطاوي ، وكنا مرّة في نقاش حضره عدد من كبار جهابذة اللغة العربية ، ودار الحديث عن استعمال الفصحى ورأى بعضهم صعوبة ذلك ، فقلت لهم أن العامية في حوران وأغلب الحجاز وعُمان اليوم تتحدث الفصحى ، بل إن اللهجة الحورانية هي أقرب اللهجات الى القرشية الفصحى السليمة ، فرفض أحدهم هذه النظرية مستشهدا بالطنطاوي رحمه الله ، فقلت : رحمك الله يا شيخنا فقد أتعبتنا بحجم ما أسعدتنا ، ونقلت لهذا الدكتور الجهبذ ما قاله الشيخ الطنطاوي نفسه في مذكراته فقنع ووافق على منحى نظريتنا المدعم بالأدلة الواقعية ... ومن القصص التي يسوقها كثيرون في وعظهم ، وأحاديثهم الرمضانية ، تلكم القصة التي تقول بأن من ترك شيئا لله عوَّضــه الله خيرا منه ، ومفادها أن لصأ دخل بيتا ليسرق فلم يجد إلا طنجرة فيها( كوسا محشية) وهي أكلة شامية معروفة ، فقضم حبة كوسا ثم أعادها إلى الطنجرة تورّعــاً ، وخرج مسرعا لتسوقه الأقدار إلى المحكمة ويزوجه القاضي من سيدة تكون هي صاحبة البيت الذي سرق منه ( قضـمـةً من حبة الكوسا المحشية ) ويدخل البيت وتأتيه بالطبخة ليأكلها بالحلال ، ويرى حبة الكوسا المقضومــة ، ويحكي للمرأة ماجرى ... هذه القصة سمعتها مرارا ، وكان في النفس منها شيء ، لوجود ثغرات في حناياهــا ، إلا أن الحصانة الممنوحة للقصة بتفاصيلها مٌنِحت لها ، كونها من مرويات الشيخ الثقة أستاذنا الطنطاوي رحمه الله ، وكان قاضيا شرعيا بدمشق وهو منْ زوَّج السيدة أم الكوسا إلى الرجل الذي سرق من بيتها ....وفجأة يطاعنا الشيخ على نفسه بأن هذه القصة لا تمتُّ للواقع بصلة ، فهي من وحي خياله وجموح أفكاره رحمه الله تعالى ، وكأنَّ الاعتراف هذا استغفار من ذنب شعر شيخنا الجليل أنه قد قارفه ! والشيخ علي الطنطاوي من المعروفين بالورع والتقوى، والدعوة إلى الله على بصيرة، ولا شك أنه قد فعل ذلك في بدايات عمره بسلامة صدر، ولو كان يعلم أن قَصَصَه سيُفهم منه أنه قَصَصٌ واقعيٌ لما أقدم على ذلك. إذ أن ذلك سيحسب عليه، ولو أنه استقبل من أمره ما استدبر لما وقع في مثل هذا، لأنه أمرٌ له خُطُورتُه عند أهلِ العلم بالحديث وغيرِهم ممن يتوخون الصدق في القول والنقل، وهذا ما علمه الشيخ بعد أن تقدمت سنه، ولعل ما ورد في كتاب الذكريات اعتذار منه عن هذا التصرف ، وإيحاء لمن ركب هذا المركب أن يراجع نفسه ويتوب ، ويبيَّن للناس الحقيقــة رحم الله الطنطاوي ما أورعــه ، علَّـمنا حيا ولا يزال يعلمنا ميتا ، فليت كتابنا وأدباؤنا الذين زعموا وظنوا وتكهنوا وتقوّلوا وقوّلوا الناس ما لم يقولوه أبدا ، ليتهم يعودون ويتنصّلون من أقوالهم كي لا تلاحقهم تبعاتهــــا في الدنيا والآخـــرة ، وهي فرصة رمضانية عليهم أن يهتبلوها في الشهر الكريم ، شهر الفضل والإنابة والتوبة ، ندعوهم إلى توبة رمضانية صادقة فيعتذروا عما صدر وممن تقوّلوا عليهم من الأحياء والأموات ، وما أظن فرصــة أجمل ولا أنسب من فرصــة رمضان الفضيل للإنابة والتراجع والاستغفار ، وطوبى لمن وجد في صحيفته يوم القيامة استغفاراً كثيراً , وصلى الله على سيدنا محمد وآله والتابعين ، وآخر دعوانــا أن الحمد لله رب العالمين الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا القارئ لعنوان مقالتنا المتواضعة هذه - للوهلة الأولــى - سيصاب بالدهشة ، فالعنوان هو على مبدأ أشقائنا المصريين إذا أرادوا التعبير عن المتناقضات فيقولون : ( سمك لبن على تمر هندي ) ، فما علاقة شيخنا الطنطاوي بالواقعية وما علاقة الواقعية بتوبة رمضان ؟؟؟ صبرأً يا قوم وتابعوا معنا لمعرفة الجواب وسرّ الخلطــة : يكتب بعض الأدباء قصصا يقولون أنها واقعية نقلا عن أمهاتهم وآبائهم وجداتهم ، وتاكيدا للواقعية في مسلكهم يسوقون المفردات العامية نفسها التي استخدمها الجد او الجدة ، وقد قرأت قصة من هذا النوع مرة لكاتب وسألته عن السر في الابقاء على الكلمات الفصحى كما هي فقال لي :  كان من مدعاة تفكيري في تدوين هذه القصة أن أستخدمها في تنمية مدارك النشء، وربطهم بتلك المفردات الموغلة في الفصاحة، والتي صار جيلُ اليوم لا يعرفُ منها إلا النزرَ اليسير، حتى إذا ما ألفوا التعاملَ مع اللغة العربية الفصحى، حملهم هذا الإلفُ على محبة أفصح الفصيح؛ القرآن العظيم، والحديث النبوي الصحيح، فيقودهم ذلك للتفقه في الدين الحنيف.  وقد صعب عليَّ جداً أن اعتمد في سردها منهج أرباب البيان من أهل العربية، ممن يركبون الخيال في صوغ وإنشاء القصص، لأن إطلاق العنان للقلم في مسارات الخيال لا تضمن معه السلامة من الكذب، خاصة وأن الخيال فرس جموح، وبحر طموح. ففضلت أن أنقل القصة كما سمعتها دون تزيُّدٍ، متبعاً في ذلك منهج علماء الحديث النبوي الشريف ممن يذهبون لقبول الرواية بالمعنى، مع الصرامة في التزام الدقة والصدق في النقل، مستخدماً الكلمات الفصيحة التي ذكرتها أمي أو جدتي ، معرباً لبعض كلامها العامي الآخر، غير زائد في المضمون ....  ولقد ذكرني هذا الكاتب بهذا التعليل الجميل بما دونه الشيخ علي الطنطاوي ، فقيه الأدباء وأديب الفقهاء -رحمه الله- في مذكراته، إذ قال: ((ولي كتاب اسمه "قصصٌ من التاريخ" آخذُ فيه أسطُراً معدودةً، أو حادثةً محدودةً، فأُعمل فيها خيالي، وأجيل فيها قلمي، حتى أجعل منها قصة. بدأت بهذا العمل من سنة 1930م، من حين كنت أشتغل في جريدة "فتى العرب"، والقصص الأولى منشورة في كتابٍ لي نفِد من دهرٍ طويلٍ كان اسمه "الهيثميات".  من هذه القصص ما ذكره المؤرخون من أن امرأة من دمشق رأت انقسامَ المسلمين، وتقاعسَهم عن قتال الصليبيين، وأرادت المشاركة في الجهاد، فعمِلت ما تقدر عليه؛ قصَّت ضفائرَها، وبعثت بها إلى سِبط ابن الجوزي (أي ابن ابنته) خطيب الجامع الأُموي في دمشق؛ ليكون منها قيدٌ لفرسٍ من خيول المجاهدين.  ويقول المؤرِّخون: إنه خطب خطبةً عظيمة ألهبت الدماء في العروق، وأسالت الدموع من العيون، وأثارت الحماسة، وأيقظت الهِمَم، فلما كتبتُ القصة على طريقتي، ألَّفتُ أنا خطبةً قلتُ: إنها التي ألقاها على الناس.  وحَسِبَ الناسُ أن هذه هي الخطبة الحقيقية، حتى إن خطيب المسجد الحرام الرجل الصالح الشيخ عبد الله خياط نقل فقرات منها في خطبة الجمعة على أنها خطبةُ سِبط ابن الجوزي)).اهـ.  ثم أورد الشيخ الطنطاوي عقب هذه مباشرة قصة أخرى قال فيها: ((وكتبتُ مرةً قصصاً متخيلةً، عن أعرابي صحبنا في رحلة الحجاز، منها: ((أعرابي في الحمَّام))، ((أعرابي في سينما))، ((أعرابي ونقد الشعر))، وكلُها في كتابي ((صورٌ وخواطر))، قلت في الأخيرة منها: إن قبيلة على حدود اليمن اسمها (السوالم) لا تزال تنطق الفصحى، لم يدخل ألسنتها اللحن، ولا بلغتها العُجمة، وكان ذلك خيالاً مني، فأخذ ذلك الأستاذ وحيد جباوي، فوضعه في بحثٍ له عن الفصحى وعن اللحن، ونشر خلاصة منه في مجلة مجمع اللغة العربية.اهـ وللأسف لا يزال كثيرون يجزمون اليوم بأن هناك قبيلة يمانية على فطرتها ولا تزال تنطق الفصحى السليمة حتى الآن !!! وإنما يستشهدون بمقالة شيخنا الطنطاوي ، وكنا مرّة في نقاش حضره عدد من كبار جهابذة اللغة العربية ، ودار الحديث عن استعمال الفصحى ورأى بعضهم صعوبة ذلك ، فقلت لهم أن العامية في حوران وأغلب الحجاز وعُمان اليوم تتحدث الفصحى ، بل إن اللهجة الحورانية هي أقرب اللهجات الى القرشية الفصحى السليمة ، فرفض أحدهم هذه النظرية مستشهدا بالطنطاوي رحمه الله ، فقلت : رحمك الله يا شيخنا فقد أتعبتنا بحجم ما أسعدتنا ، ونقلت لهذا الدكتور الجهبذ ما قاله الشيخ الطنطاوي نفسه في مذكراته فقنع ووافق على منحى نظريتنا المدعم بالأدلة الواقعية ...  ومن القصص التي يسوقها كثيرون في وعظهم ، وأحاديثهم الرمضانية ، تلكم القصة التي تقول بأن من ترك شيئا لله عوَّضــه الله خيرا منه ، ومفادها أن لصأ دخل بيتا ليسرق فلم يجد إلا طنجرة فيها( كوسا محشية) وهي أكلة شامية معروفة ، فقضم حبة كوسا ثم أعادها إلى الطنجرة تورّعــاً ، وخرج مسرعا لتسوقه الأقدار إلى المحكمة ويزوجه القاضي من سيدة تكون هي صاحبة البيت الذي سرق منه ( قضـمـةً من حبة الكوسا المحشية ) ويدخل البيت وتأتيه بالطبخة ليأكلها بالحلال ، ويرى حبة الكوسا المقضومــة ، ويحكي للمرأة ماجرى...  هذه القصة سمعتها مرارا ، وكان في النفس منها شيء ، لوجود ثغرات في حناياهــا ، إلا أن الحصانة الممنوحة للقصة بتفاصيلها مٌنِحت لها ، كونها من مرويات الشيخ الثقة أستاذنا الطنطاوي رحمه الله ، وكان قاضيا شرعيا بدمشق وهو منْ زوَّج السيدة أم الكوسا إلى الرجل الذي سرق من بيتها ....وفجأة يطاعنا الشيخ على نفسه بأن هذه القصة لا تمتُّ للواقع بصلة ، فهي من وحي خياله وجموح أفكاره رحمه الله تعالى ، وكأنَّ الاعتراف هذا استغفار من ذنب شعر شيخنا الجليل أنه قد قارفه !  والشيخ علي الطنطاوي من المعروفين بالورع والتقوى، والدعوة إلى الله على بصيرة، ولا شك أنه قد فعل ذلك في بدايات عمره بسلامة صدر، ولو كان يعلم أن قَصَصَه سيُفهم منه أنه قَصَصٌ واقعيٌ لما أقدم على ذلك. إذ أن ذلك سيحسب عليه، ولو أنه استقبل من أمره ما استدبر لما وقع في مثل هذا، لأنه أمرٌ له خُطُورتُه عند أهلِ العلم بالحديث وغيرِهم ممن يتوخون الصدق في القول والنقل، وهذا ما علمه الشيخ بعد أن تقدمت سنه، ولعل ما ورد في كتاب الذكريات اعتذار منه عن هذا التصرف ، وإيحاء لمن ركب هذا المركب أن يراجع نفسه ويتوب ، ويبيَّن للناس الحقيقــة  رحم الله الطنطاوي ما أورعــه ، علَّـمنا حيا ولا يزال يعلمنا ميتا ، فليت كتابنا وأدباؤنا الذين زعموا وظنوا وتكهنوا وتقوّلوا وقوّلوا الناس ما لم يقولوه أبدا ، ليتهم يعودون ويتنصّلون من أقوالهم كي لا تلاحقهم تبعاتهــــا في الدنيا والآخـــرة ، وهي فرصة رمضانية عليهم أن يهتبلوها في الشهر الكريم ، شهر الفضل والإنابة والتوبة ، ندعوهم إلى توبة رمضانية صادقة فيعتذروا عما صدر وممن تقوّلوا عليهم من الأحياء والأموات ، وما أظن فرصــة أجمل ولا أنسب من فرصــة رمضان الفضيل للإنابة والتراجع والاستغفار ، وطوبى لمن وجد في صحيفته يوم القيامة استغفاراً كثيراً , وصلى الله على سيدنا محمد وآله والتابعين ، وآخر دعوانــا أن الحمد لله رب العالمين

الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا

القارئ لعنوان مقالتنا المتواضعة هذه - للوهلة الأولــى - سيصاب بالدهشة ، فالعنوان هو على مبدأ أشقائنا المصريين إذا أرادوا التعبير عن المتناقضات فيقولون : ( سمك لبن على تمر هندي ) ، فما علاقة شيخنا الطنطاوي بالواقعية وما علاقة الواقعية بتوبة رمضان ؟؟؟ صبرأً يا قوم وتابعوا معنا لمعرفة الجواب وسرّ الخلطــة :

يكتب بعض الأدباء قصصا يقولون أنها واقعية نقلا عن أمهاتهم وآبائهم وجداتهم ، وتاكيدا للواقعية في مسلكهم يسوقون المفردات العامية نفسها التي استخدمها الجد او الجدة ، وقد قرأت قصة من هذا النوع مرة لكاتب وسألته عن السر في الابقاء على الكلمات الفصحى كما هي فقال لي :

كان من مدعاة تفكيري في تدوين هذه القصة أن أستخدمها في تنمية مدارك النشء، وربطهم بتلك المفردات الموغلة في الفصاحة، والتي صار جيلُ اليوم لا يعرفُ منها إلا النزرَ اليسير، حتى إذا ما ألفوا التعاملَ مع اللغة العربية الفصحى، حملهم هذا الإلفُ على محبة أفصح الفصيح؛ القرآن العظيم، والحديث النبوي الصحيح، فيقودهم ذلك للتفقه في الدين الحنيف.

وقد صعب عليَّ جداً أن اعتمد في سردها منهج أرباب البيان من أهل العربية، ممن يركبون الخيال في صوغ وإنشاء القصص، لأن إطلاق العنان للقلم في مسارات الخيال لا تضمن معه السلامة من الكذب، خاصة وأن الخيال فرس جموح، وبحر طموح. ففضلت أن أنقل القصة كما سمعتها دون تزيُّدٍ، متبعاً في ذلك منهج علماء الحديث النبوي الشريف ممن يذهبون لقبول الرواية بالمعنى، مع الصرامة في التزام الدقة والصدق في النقل، مستخدماً الكلمات الفصيحة التي ذكرتها أمي أو جدتي ، معرباً لبعض كلامها العامي الآخر، غير زائد في المضمون ....

ولقد ذكرني هذا الكاتب بهذا التعليل الجميل بما دونه الشيخ علي الطنطاوي ، فقيه الأدباء وأديب الفقهاء -رحمه الله- في مذكراته، إذ قال:
((ولي كتاب اسمه "قصصٌ من التاريخ" آخذُ فيه أسطُراً معدودةً، أو حادثةً محدودةً، فأُعمل فيها خيالي، وأجيل فيها قلمي، حتى أجعل منها قصة.

بدأت بهذا العمل من سنة 1930م، من حين كنت أشتغل في جريدة "فتى العرب"، والقصص الأولى منشورة في كتابٍ لي نفِد من دهرٍ طويلٍ كان اسمه "الهيثميات".

من هذه القصص ما ذكره المؤرخون من أن امرأة من دمشق رأت انقسامَ المسلمين، وتقاعسَهم عن قتال الصليبيين، وأرادت المشاركة في الجهاد، فعمِلت ما تقدر عليه؛ قصَّت ضفائرَها، وبعثت بها إلى سِبط ابن الجوزي (أي ابن ابنته) خطيب الجامع الأُموي في دمشق؛ ليكون منها قيدٌ لفرسٍ من خيول المجاهدين.

ويقول المؤرِّخون: إنه خطب خطبةً عظيمة ألهبت الدماء في العروق، وأسالت الدموع من العيون، وأثارت الحماسة، وأيقظت الهِمَم، فلما كتبتُ القصة على طريقتي، ألَّفتُ أنا خطبةً قلتُ: إنها التي ألقاها على الناس.

وحَسِبَ الناسُ أن هذه هي الخطبة الحقيقية، حتى إن خطيب المسجد الحرام الرجل الصالح الشيخ عبد الله خياط نقل فقرات منها في خطبة الجمعة على أنها خطبةُ سِبط ابن الجوزي)).اهـ.

ثم أورد الشيخ الطنطاوي عقب هذه مباشرة قصة أخرى قال فيها: ((وكتبتُ مرةً قصصاً متخيلةً، عن أعرابي صحبنا في رحلة الحجاز، منها: ((أعرابي في الحمَّام))، ((أعرابي في سينما))، ((أعرابي ونقد الشعر))، وكلُها في كتابي ((صورٌ وخواطر))، قلت في الأخيرة منها: إن قبيلة على حدود اليمن اسمها (السوالم) لا تزال تنطق الفصحى، لم يدخل ألسنتها اللحن، ولا بلغتها العُجمة، وكان ذلك خيالاً مني، فأخذ ذلك الأستاذ وحيد جباوي، فوضعه في بحثٍ له عن الفصحى وعن اللحن، ونشر خلاصة منه في مجلة مجمع اللغة العربية.اهـ وللأسف لا يزال كثيرون يجزمون اليوم بأن هناك قبيلة يمانية على فطرتها ولا تزال تنطق الفصحى السليمة حتى الآن !!! وإنما يستشهدون بمقالة شيخنا الطنطاوي ، وكنا مرّة في نقاش حضره عدد من كبار جهابذة اللغة العربية ، ودار الحديث عن استعمال الفصحى ورأى بعضهم صعوبة ذلك ، فقلت لهم أن العامية في حوران وأغلب الحجاز وعُمان اليوم تتحدث الفصحى ، بل إن اللهجة الحورانية هي أقرب اللهجات الى القرشية الفصحى السليمة ، فرفض أحدهم هذه النظرية مستشهدا بالطنطاوي رحمه الله ، فقلت : رحمك الله يا شيخنا فقد أتعبتنا بحجم ما أسعدتنا ، ونقلت لهذا الدكتور الجهبذ ما قاله الشيخ الطنطاوي نفسه في مذكراته فقنع ووافق على منحى نظريتنا المدعم بالأدلة الواقعية ...

ومن القصص التي يسوقها كثيرون في وعظهم ، وأحاديثهم الرمضانية ، تلكم القصة التي تقول بأن من ترك شيئا لله عوَّضــه الله خيرا منه ، ومفادها أن لصأ دخل بيتا ليسرق فلم يجد إلا طنجرة فيها( كوسا محشية) وهي أكلة شامية معروفة ، فقضم حبة كوسا ثم أعادها إلى الطنجرة تورّعــاً ، وخرج مسرعا لتسوقه الأقدار إلى المحكمة ويزوجه القاضي من سيدة تكون هي صاحبة البيت الذي سرق منه ( قضـمـةً من حبة الكوسا المحشية ) ويدخل البيت وتأتيه بالطبخة ليأكلها بالحلال ، ويرى حبة الكوسا المقضومــة ، ويحكي للمرأة ماجرى...

هذه القصة سمعتها مرارا ، وكان في النفس منها شيء ، لوجود ثغرات في حناياهــا ، إلا أن الحصانة الممنوحة للقصة بتفاصيلها مٌنِحت لها ، كونها من مرويات الشيخ الثقة أستاذنا الطنطاوي رحمه الله ، وكان قاضيا شرعيا بدمشق وهو منْ زوَّج السيدة أم الكوسا إلى الرجل الذي سرق من بيتها ....وفجأة يطاعنا الشيخ على نفسه بأن هذه القصة لا تمتُّ للواقع بصلة ، فهي من وحي خياله وجموح أفكاره رحمه الله تعالى ، وكأنَّ الاعتراف هذا استغفار من ذنب شعر شيخنا الجليل أنه قد قارفه !

والشيخ علي الطنطاوي من المعروفين بالورع والتقوى، والدعوة إلى الله على بصيرة، ولا شك أنه قد فعل ذلك في بدايات عمره بسلامة صدر، ولو كان يعلم أن قَصَصَه سيُفهم منه أنه قَصَصٌ واقعيٌ لما أقدم على ذلك. إذ أن ذلك سيحسب عليه، ولو أنه استقبل من أمره ما استدبر لما وقع في مثل هذا، لأنه أمرٌ له خُطُورتُه عند أهلِ العلم بالحديث وغيرِهم ممن يتوخون الصدق في القول والنقل، وهذا ما علمه الشيخ بعد أن تقدمت سنه، ولعل ما ورد في كتاب الذكريات اعتذار منه عن هذا التصرف ، وإيحاء لمن ركب هذا المركب أن يراجع نفسه ويتوب ، ويبيَّن للناس الحقيقــة

رحم الله الطنطاوي ما أورعــه ، علَّـمنا حيا ولا يزال يعلمنا ميتا ، فليت كتابنا وأدباؤنا الذين زعموا وظنوا وتكهنوا وتقوّلوا وقوّلوا الناس ما لم يقولوه أبدا ، ليتهم يعودون ويتنصّلون من أقوالهم كي لا تلاحقهم تبعاتهــــا في الدنيا والآخـــرة ، وهي فرصة رمضانية عليهم أن يهتبلوها في الشهر الكريم ، شهر الفضل والإنابة والتوبة ، ندعوهم إلى توبة رمضانية صادقة فيعتذروا عما صدر وممن تقوّلوا عليهم من الأحياء والأموات ، وما أظن فرصــة أجمل ولا أنسب من فرصــة رمضان الفضيل للإنابة والتراجع والاستغفار ، وطوبى لمن وجد في صحيفته يوم القيامة استغفاراً كثيراً , وصلى الله على سيدنا محمد وآله والتابعين ، وآخر دعوانــا أن الحمد لله رب العالمين

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-