"الذين يكتبون، يلمسون اللّذّة والسّعادة فيما يكتبون، ولذلك لا يزالون يكتبون.
والذين يقرؤون الكتابة يجدون اللّذّة والسّعادة فيما يقرؤون ولذلك لا يزالون يقرؤون".
ما أسعدني أن أخصّ الشّاعر الدكتور عاطف الدرابسة بهذه القراءة النقديّة المتواضعة،
يقول الشّاعر:
"أنا مخلوقٌ لا أحتمل تقلّبات الطّقس
لأنّني كائنٌ متهالك منذ نصف قرنٍ
أعيشُ بصمت
أحبّ بصمت
أبحثُ عن الشّمس بصمت
وأحيانًا أشعرُ أنّي نباتٌ بريٌّ
لكن لا شوك فيه"
لعلّ هذا المقطع يختصر تحوّلات الذّات عند شاعر لا يكتب إلّا نفسه. فإذا كان الغرض من هذه القصائد أن تعكس تجسيدًا للتنوّع في تجربة الكاتب، وأن ترسم صورة تقريبيّة لتحوّلات الذّات ونضجها، فإنّنا نلاحظ التنوّع داخل الوحدة، بمعنى أنّ موضوعات قصائد هذه المختارات تبدو متعدّدة ومختلفة، مع أنّها تشكّل في سياقها العام وحدةً كليّة، حيث لا انفصال ولا حدود في الجوهر بين الذّات والعالم، الأنا والآخر، الإنسان والطبيعة.
وعلى نقيض ما يذهب إليه موريس بلانشو، بأنّ الكتابة "غايتها العبث ومظهرها العدم ومصيرها التلاشي"، فإنّ الكتابة عند عاطف الدرابسة هي الحياة، كلّ الحياة واللّغة عنده هي مرآة هذه الكتابة المعادل الموضوعي للحياة. هي وجود الوجود، عصيّةٌ عن الإدراك بالمعرفة التجريبيّة وإنّما تحتاج إلى حفرٍ وتنقيب، إذ تفجؤك أحيانًا الأساطير المبثوثة بين السّطور والتي يعيد الكاتب إنتاجها بلغة تلائم هذا العصر، وفي أحيان أخرى تبرز فلسفة عميقة كامنة بين السّطور. فثمّة عالمٌ مستتر خلفَ كلّ نصّ، عالمٌ يٌشعَر به، واضحٌ في تجلّياته الداخليّة كما لو إنّه أقوى من مظاهر الوجود حولنا. هذه النّصوص المليئة بالتشابة والاختلاف تشكّل المادّة الأساسيّة للعالم الذي يصوّره لنا الشّاعر.
يقول في قصيدة "لا تحاولي أن تسبري أغوارَ نفسي":
كم قلتُ لكِ إنّي
صورة عن الأرض
والأرضُ مرآة..
هل تعلمين أنّ الأرضَ لا تكشف عن أسرارها..
إلاّ إذا زُلزلت..
أوتار في أعماقها بركان؟
سيجد الدّارس في هذه القصيدة، الكثير من علامات المعنى التي تدلّ على المكان. سيجد مشهد "الأرض"؛ وهو مشهد جغرافي – نباتي، إذا طلبنا التحديد، من دون أن يتعيّن بالضرورة في زمن أو مكان محدّدين. نجد عناصر الأرض (صخور، رمال، كائنات تحلّلت، مياه، صحراء، جبال، جزر، أنهار)، لكن هذه العناصر صارت جزءًا من كيانه لأنّه اتّحد بالأرض. فالأرض هي الشّاعر والشّاعر هو الأرض، يتّحدان معًا ليكوّنا التاريخ.
إنّه الاتّحاد الخلاّق، المؤسّس لانبناء العالم، ولأيّ شيء، ولا سيّما في حراكه الأوّل، في مواده الأولى، في عناصره التكوينيّة.
فالمتكلّم يلتقط الحركات الأولى للعالم قبل أن يصبح عالمًا، هذا ما يجعل سعة البحر قابلة لأن تكون فوق ورقة قصيدته. إذ يقول: "سأخرج من المرآة سأقيم على الورق مثل قصائد لا تموت". فالشّاعر يستنهض في سطور قصيدته الألفاظ على أنّها الأشياء، ما دام أنّ المتكلّم هو المعنى.
غير أنّ المتكلّم – الخالق ينشأ من عدم، مثلما كانت أرض القصيدة قبل التلفّظ ،قبل فعل الكتابة. فالمتكلّم سيرة، كما لو أنّ مكوّنات الوجود تهيّأت لاستقباله:
"أنا حجرٌ
أنا جرحٌ في حجر.."،
"أنا حجرٌ
لي يدان وقدمان.."
"سأملأ الفراغَ المهجور
بالسّهول
بالبحار
بالأنهار...
باللّحظات الجميلة..."
ويظهر الشّاعر كأنّه مولود الكون قبل أن يصبح أرضًا، إذ يقول:
"اقتربوا من سمائي
لترَوا كيف يُنجب اللّيل النّجوم
وكيف تنسج الشّمس فجري.
أي ما سيحتاجه في أفعاله التكوينيّة للحياة فوق الأرض، هكذا كان للمتكلّم تكوينه وحضوره، ولكن هذا الحضور لا وجود له من دون "الأنتِ"، لذلك تنتظم قصائد المجموعة قيد الدرس في أشكال تخاطبيّة (الأم – الحبيبة – أصحاب الطبقة المطحونة) وفي تكلّم الذّات مع المخاطب الإنسانيّ، ينقسم الخطاب إلى
قسمين :تكالم حبّي (الحبيبة) ،حنيني (الأمّ) من جهة، وتكالم تمرّدي (الذين يمارسون القمع على الطبقة المطحونة) من جهة أخرى. والنّصوص إجمالاً تحتفي بمخاطب ضمني يدلّنا على أنّ الخطاب موجّه إلى امرأة، لكن من هي؟ إنّ النّصوص تكتفي بذكر هويّتها العامّة، أمًّا أو حبيبة، ويقتصر على مخاطبتها بواسطة النداء "يا حبيبةً". فصورة المخاطب كما يرسمها المتكلّم، لا تعرف اسمًا غير الحبيبة ويتمثّل حضور المخاطبة في الضمير المنفصل (أنتِ) المتواتر في مجمل القصائد أو كاف المخاطبة (فيكِ، أحبّك، إليك) أو هاء الغائبة (لها، ليلها...)
والمتتبّع لنصوص الدرابسة الشعريّة، يجد أنّ التلفّظ يتوجّه فيه المتكلّم إلى غيره بكلّ صيغه، وإن يكن بشكل متفاوت، لأنّ الذات المتكلّمة تبحث عن شريك تتقاسم معه همومها، ففي قصيدة "لا تبحثي عن الصندوق الأسود"، يقول:
"تعطّري
والبسي ثوبَك الأسود
وتعالي معي
نتناول العشاء في كهوف العزلة"
لكن يبقى الحضور الأقوى للذات في كلّ القصائد، والأنا التي تهيمن ليست "الأنا" المتورّمة، وإنّما هي "أنا" شخص يقدّم إلينا ما يُشاهده من دون أن يقتحم رغباته ولا مشاعره بالضرورة في تحديد عالم القصيدة، وهذا ما ينزع عن ضمير المتكلّم صفات الرومنسيّة، ما يدفعنا إلى طرح الإشكاليّة التالية: هل استخدامه لضمير المتكلّم في مجمل القصائد هو تدبير وخيار يتماشيان مع هيئة النّصّ الشّعريّ؟
ويوجّه المتكلّم غضبه إلى أصحاب الطبقة الميسورة الذين يجمعون الإثم والثورة ويحوّلون الإنسان إلى سلعة، إذ يقول:
"ما أصعب أن يكون الإنسان
سلعة في الأسواق
كلّ يوم يموت ألف إنسان
ليحيا في ممالك المال
إنسان..."
من خلال صيغة المتكلّم التخاطبيّة، تتفجّر لدى الذّات مشاعر القهر والحزن، فيعلو في المجموعة الصوت الصّارخ ضدّ الظلم، فيكون تارةً على شكل نبرة تمرّديّة، وطورًا على شكل استعطاف واستجداء من المتكلّم إلى المتلقّي. فالنّصوص تثير الذات المتكلّمة بصيغة المخاطب مع كلّ ما تتضمّنه اللّغة في مضمونها من معاني الحزن، وفي الإكثار من استخدام ضمائر المخاطبة وأدوات النداء الصريحة والمستترة خلقًا للتفاعل مع المتلقّي في تخاطبيّة بارزة تضفي على النّصوص الصبغة التفاعليّة.
وبالعودة إلى المعاني الدلاليّة في القصيدة، نرى أنّ المعنى الواحد لم يعُد قائمًا في عبارة، بل بات يتنقّل في مواضع مختلفة، عاقدًا علاقات دلاليّة مختلفة... وأوّل ما يحدّد القصيدة لديه وحدتها، فهي وحدة متماسكة لا شقوق بين أضلاعها، وتأثيرها يقع ككلّ لا كأجزاء، لا كأبيات وألفاظ، وقيمتها الفعليّة في هذا الكلّ الذي تطرح نفسها من خلاله،و في هذا الكلّ الذي تجد عناصره المكوّنة من خلاله أيضًا. وإذا كان تأثير القصيدة أو فعلها يأتي من اكتمال قراءتها، فإنّ هذا الاكتمال وحده هو الذي يعطي للأجزاء المؤلّفة لها مغزاها الحقيقي.
بالتالي، القصيدة عند عاطف الدرابسة لا تكتسب دلالتها النهائيّة إلاّ في موقعها المحدّد من بنية القصيدة الكاملة، من السياق الذي تأتي فيه، ومن النسق الذي تؤلّفه علاقاتها بسواها من الجمل والعبارات، في الكلّ المتكامل للقصيدة.
فقصائد عاطف الدرابسة ليست حالات، وإنّما كدّ لمواكبة العصر ومساهمة في السعي لا من أجل تحرير الشّعر وحده بل لتحرير الشّاعر أيضًا. فاحتياج الشّاعر لكتابة القصيدة، لا يصدر عن هوسٍ في التعبير، وإنّما عن شاغل كياني ووجودي، فاحتياجه إلى الشّعر يبقى دومًا شهوة غامضة. فيما كان يكتب قصائده، كان مشغولاً بفتح طريق جديد، يمنح من خلاله نصوصه الشعريّة شكلاً جديدًا.