المرأة والمساواة
محمد نجيب عبد الكافي - ليبيا - " وكالة أخبار المرأة "
إن من غرائبي التي لا أفهمها ولا أجد لها سببا، هي اهتمامي بوضع المرأة لدينا وجرأتي بادعائي الدفاع عنها، بسلاحي الوحيد وهو القلم. ليس في عائلتي، ولا في الأقارب والأحباب والجيران، الذين عشت طفولتي وبداية شبابي بينهم، تصرّف وسلوك تجاه المرأة، فيه ما يدفع إلى التأثر بالموضوع حتى يجعلني مهتما مدافعا…
رغم هذا، فإني لا أخالف الحقيقة إذا قلت إني بدأت الكتابة بالدفاع عن المرأة. كنت إذاك في الثالثة والرابعة عشرة من عمري، فشرعت أكتب ما بدا لي وخطر عليّ، ضمن شبه مقالات في شكل رسائل إلى مجهول، جسّمته فعليّا في ابن عمتي، الذي اعتبرته الذي اعتبرته دائما أخا يكبرني، وهو المغفور له الهادي الدريدي، الذي كان يعيش في مدينة سوسة، أي بعيدا عنّي. الغريب في الأمر هو أنه استلم تلك الرسائل، واحتفظ بتلك الرسائل المقالات، وفي آخر لقاء معه رحمه الله، أخبرني بأنه محتفظ بها وسيسلمني إياها في زيارة قادمة. لكن أبت الأقدار إلا رحيله إلى دار الخلد، قبل الإيفاء بالوعد، ومن يومها وأنا وراء أبنائه وبناته، لاسترجاع كنزي الثمين، حتى أطلع أو أتذكر ما كتب ذلك الطفل الغرير عن المرأة ومشاكلها في دنيانا التي مرّت بخيرها وشرّها…
لم يكن ذلك عملا طفوليا، بل هو اعتقاد ورسالة على ما يبدو، لأني كبرت وكبر معي، وها أنا أدخل وأعمل بالإذاعة، بفضل قصة قصيرة عن المرأة وسوء مصيرها، نالت استحسانا ونجاحا عديمي النظير في تلك الأيام. سيطر على ذهني هذا الماضي، وهذا الموضوع الذي، وإن هو تطور فحسن وسار ويسير في سبيل المزيد من التحسّن، لم يبلغ بعد مستوى العدل والتساوي والمساواة، التي لا نجد أفضل تعبير عنهما من قول الله تعالى، معطينا المثال كي نسير على هديه، إذ يقول سبحانه في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}…
سبحانك ربّي.. كان بالإمكان استعمال صيغة الجمع التي تعبّر عن التأنيث والتذكير معا، لكن، أبت حكمته تعالى، تحاشي سوء الفهم أو التحيّل عند التفسير والشرح، فقطع دابر كل شك أو تأويل، مجسما المساواة الحقة بأبلغ تعبير وأسلوب.
منذ فجر النهضة العربية، أي من أوائل القرن التاسع عشر وبداية العشرين، أو حتى من أواخر الثامن عشر، أخذ المستنيرون من الرجال، ثم النساء، يكتبون منتقدين وضع المرأة المسلمة داخل مجتمعها، مطالبين لها بالحقوق والمساواة فنجد، على سبيل المثال لا غير، قاسم أمين ثم هدى الشعراوي في مصر، والطاهر الحداد وأبا القاسم الشابي بتونس، وكثيرين تتالوا من بعد ذلك، فأعطت كتاباتهم ثمارها…
بدأت المسيرة بداية حسنة، إذ تمثلت في مزاولة البنات المدرسة. خطوة صعُب على الكثيرين اتخاذها، لكنها سادت في النهاية بنجاح وإقبال واسعين، حتى أصبحت لزوما وفرضا على الجميع. لأن الذين كانوا محافظين على ما وجدوه من قبلهم، فهموا، أو أُفْهموا، أن ولوج عالم العلم والمعرفة، وهو الأساس الصحيح الثابت، يقام عليه كلّ تقدم أو تطور…
واكب أو تلا هذه الخطوة، السفور التدريجي المحتشم، ثم قامت حركات نسوية في أكثرية البلدان، عربية إسلامية وغيرها، وها هي تواصل نشاطها ومطالباتها بوسائل متعدّدة، رغم ما تحقق وأنجز، ورغم دخول المرأة معترك الحياة العامة بقدم ثابتة ونجاح يحمد. لكن، ويا ليت لكن لم تكن، لا يزال التغيير أو التحسين، أو الإصلاح، أو "إعطاء" الحقوق -التي تؤخذ لا تعطى- بيد الرجل، ثم إن العمل في هذا السبيل، مقام على الأرقام والنسب المئوية، بينما المعيار يجب أن يكون الكفاءة والمقدرة…
ما الداعي إلى تحديد نسبة أو عدد لمشاركة المرأة في مختلف نشاطات ولزوميات مجتمعها؟ وما العيب إن فاق عدد النساء على عدد الرجال؟ أليست القاعدة الحكيمة تقول: الشخص المناسب في المكان المناسب؟ هذا لعمري ما يجب تطبيقه بكل دقّة وتثبّت، دون النظر إلى الجنس ولا لغيره، والتركيز على الكفاءة والصلاحية، بلا أي تحيّز أو تمييز.
صدر دستور تونس الأخير، منذ ما يقرب من عقد، مقرّرا التعادل بين عدد الرجال والنساء في قوائم الانتخابات والترشح لعضوية المجالس النيابية وغيرها، فهلل الناس وكبروا، في تونس وخارجها، بينما الإحصائيات السكنية أخذت تشير إلى تفوّق عدد الإناث على عدد الذكور في المجتمع. فأين المساواة؟
قلت أعلاه إن التغيير والإصلاح لا يزال بيد الرجل، بينما الرجل نفسه، في رأيي، هو عنصر المشكلة الرئيس، لأنه أبا كان، أو وليا، أو مسؤولا فيما له علاقة بما نحن فيه، لم يكن مستعدّا، ولا يزال الكثيرون غير مستعدّين، لأي تحوّل أو تطوّر. فالرجال عموما، إلا ما قلّ وندر، لا يزالون يرون النقص في المرأة، ولا يؤمنون بأن الله قد وهبها ما وهب الرجل، من ذكاء، وفطنة، ومقدرة فكرية، وها هي تبرهن يوما بعد يوم، على مقدرة جسمانية أيضا. فبيت الداء هو ثقافة الرجل، التي يجب العمل على تغييرها لما هو أحسن وأعدل. ثقافة موروثة متأصلة، كان على لإصلاح وإرجاع الحق لأهله، أن تنطلق منها بدايته.
هذا رأيي، رغم أن أول المطالبين بتحرير المرأة، ومنحها حقوقها كانوا رجالا نيري الفكر والضمير، فجاء صنيعهم إثباتا للمتناقضات في سلوكنا، وتصرفاتنا، في معظم الأحيان والحالات. ذكرت بعضهم على سبيل المثال، لكن هناك من سبقهم فكان الرائد وفي الطليعة، وما هو إلا القاضي محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي أبو الوليد (520 هـ/1126 م – 595 هـ/1198) الذي كتب يقول قبل قرون:
"إن معيشتنا الاجتماعية الحاضرة لا تدعنا ننظر ما في النساء من القوى الكامنة، فهي عندنا كأنها لم تُخلق إلا للولادة، وإرضاع الأطفال، ولذلك تُفني هذه العبودية كل ما فيها من القوة على الأعمال العظيمة. وهذا هو السبب في عدم وجود نساء رفيعات الشأن عندنا. فضلاً عن ذلك، فإن حياتهن أشبه بحيات النبات وهن عالة على رجالهن. لذلك كان الفقر عظيماً في مدننا، لأن دَور النساء فيها مضاعف لعدد الرجال، وهن عاجزات عن كسب رزقهن الضروري.“
ويواصل فيقول:
"وإنما زالت كفاية النساء في هذه المدن لأنهن اتخذن للنسل دون غيره، وللقيام بأزواجهن، وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلا لأفعالهن الأخرى. ولما لم تكن النساء في هذه المدن مهيات على نحو من الفضائل الإنسانية، كان الغالب عليهن فيها أن يشبهن الأعشاب. ولكونهن حملا ثقيلا على الرجال صرن سببا من أسباب فقر هذه المدن، وبالرغم من أنهن فيها ضعف عدد الرجال، فإنهن لا يقمن بجلائل الأعمال الضرورية، وإنما ينتدبن في الغالب لأقل الأعمال، كما في صناعة الغزل والنسيج، عندما تدعو الحاجة إلى الأموال بسبب الأنفاق، وهذا كله بيّن بنفسه.“
قال الفيلسوف الأكبر واضعا إصبعه على الدمّل، مطالبا بالتغيير والتحسين للخروج من وضع مضر مشين. أعطت كل تلك الكتابات وما زامنها من نضال سلمي رصين نتائج محمودة، فتغيرت الأمور كثيرا نحو الأمل المنشود، وها هي جمعيات نسوية في بلداننا -وفي غيرها- تكافح وتطالب بالمزيد مثل تحرير المرأة من كل تسلط، والتخلّي عن التحكم فيها وفيما إليها، فحصلت المرأة على حقوقها، أو الأصح على بعض حقوقها، لأن المساواة الحقّة بين الذكر والأنثى في كل المجالات، لا تزال منقوصة. ثمّ إن تعدّد الزوجات لا يزال ساريا بينما الله سبحانه، وهو أعلم العالمين، ذكّر وأعلم يقينا بقوله جلّ وعلا: {ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم).. تنبيه واضح يفيد أ
ن غياب العدل يبطل التعدد، ويفضل الاكتفاء بزوجة واحدة. أما المساواة في الميراث مع الرجل، فذلك من خصائص أهل الذكر إن كانوا بمسؤولياتهم واعين وللحق عاملين. بقي الاعتداء بالعنف على الجسد والكرامة باليد واللسان، الذي يتزايد بدل القضاء عليه بالقانون والحرص، فهو ظاهرة خطرة، يجب الوقوف دونها بكل حزم وعزم. خلاصة القول إن وضع المرأة ليس بيد الرجل، بل رهن تثقيف الرجل وتغيير مفاهيمه القديمة الراسخة، حتى يفهم ويقتنع، زوجا كان أو أخا أو مسؤولا في أي مجال وفي كل المستويات والمسؤوليات، أن الأنثى بشر مثله، لها ما له، وعليها ما عليه، ولا فرق إلا بالتقوى. أما من يستعمل العنف أيا كان شكله، فعلى المرأة ألا تتحمل بصمت، بل عليها فضحه، وعلى المسؤول ردعه، إذ كما يقول المثل الشعبي: "ما دواء الفم النتن، إلا السواك الحار“.