إنّ هذا الكتاب يشكّل مجموعة حوارات مع الشّاعر اللبناني شربل داغر، واختيرت من مجموع كبير من الحوارات، مبتدئة من مطلع"الرّبيع العربي" (2011) حتّى أيامنا هذه. وقد سبق للدّكتور مصطفى كيلاني أن نشر في كتابه: "شربل داغر: الرّغبة في القصيدة" (2006)، مجموعة من الحوارات سابقة على ما انتقيت.
تنطلق هذه المقدّمة من مفهوم بعينه، خاص بالحوارات، وهي أنّها تلتقي مع إنتاج الكاتب، من دون أن تكون من متنها. وهو ما درسَه جيرار جينيت (Gérard Genette)، وأطلق عليه تسمية "عتبات" (Seuils)، وهي عنوان كتابه الذّائع الصّيت. توقّف جينيت عند موادٍ مرفقةٍ بالكتاب من مقدّمة، وتوطئة، وكلمة على صفحة الغلاف الأخيرة، وهي تعود للكاتب نفسه أو لشريك آخر معه في العمليّات الكتابيّة، كما أنّه أقرّ بوجود مواد أخرى تقع خارج الكتاب بالمعنييْن الطّباعيّ والماديّ، لكنّها تبقى متّصلة به. أي ما يقال عن الكاتب والكتاب وعن أدبه عمومًا من قبل الكاتب نفسه في خطابه النّقديّ، أو يشترك بها مع غيره مثل المقابلات الصّحفيّة والحوارات.
انطلق د. داغر من مفهوم "العتبات"، وبنى عليها، وعدَّلَها كما أضاف إليها، وانتهى إلى التّمييز بين "عتبات الدّخول إلى الكتاب" وبين "عتبات الخروج إلى غيره"، وهي ثلاثة في حسابه: "النّصوص المصاحبة، النّصوص المحيطة، والنّصوص الموازية"( ). وإذا كانت النّصوص "المصاحبة" هي التّي تجتمع في الكتاب، فـ"المحيطة" هي ما اتّصل به من دون أن تكون مطبوعة معه، في متنه، أمّا "الموازية"، فهي ما يحاذي الكتاب في زمنه التأليفي والثقافي والتاريخي. ويعتبر الحوار، بالتالي، واحدًا من النصوص "المحيطة"، ما يشترك بين الكاتب (حول كتابه، حول كتبه) مع شريك (النّاقد، الصّحفيّ...)، ما يهدف إلى استطلاع ما يقع بعد الكتاب، وما يسبقه، ويخفيه، ويعرِّف به. ولمّا كانت القصيدة بيتًا، فإنّ الحوار عتبته. ويتبيّن من خلال الاطّلاع على حوارات د. داغر أنّ اهتمامه بها، هو طريقة أخرى للتّفكير في القصيدة واستكمالٌ لدرسها، والذّهاب صوب مجهولها.
هكذا يتحدّث د. داغر عن رأيه في القصيدة العربيّة، معتبرًا نفسه "غريبًا" في المشهد الشّعريّ، لأنّه يقبل على الشّعر إقبالاً مختلفًا، لا يقوم على خطاب وجدانيّ، أو سياسيّ، ولا يجعل من القصيدة غناءً مستديمًا. ولهذا فهي قصيدة غير عاطفيّة، حيث لا آهات ولا دموع، لا أناشيد أو مراثٍ، لا بهجة ولا مآسٍ. فانصراف داغر إلى القصيدة كان من دون التّفكير في الشّعر ومن دون التّطلّع إلى الشّاعر، فالقصيدة التّي يخرج من كتابتها لا يُحسن الرّجوع إليها، إذ تكون قد التمت أغصانها عليها كما في غابة.
ويبقى الشّعر هاجسه بدليل أنّه رفيق عمره، يتنفّسه ويتنفّس فيه. فاحتياجه للشّعر، لكتابة القصيدة، لا يصدر فقط عن هوسٍ في التّعبير، وإنّما أيضًا عن شاغلٍ كيانيٍّ ووجوديٍّ، لكنّه ينفصل عن الأنا المعلاة من شأنها، أو التّي تنصرف إلى الغناء بما تكتبه، سواء أكان موتًا أم حبًّا. فاحتياجه إلى الشّعر مثل شهوة غامضة.
إنّ القصيدة تكتبه حين يكتبها، هي التّي توصله حين يتوجّه إليها، وهذا ما يشدّه إليها. هي مستقبل على الرّغم من أنّها تصدر عن ماضٍ. وللشّعر مصير يلازمه من دون أن يبالي بما يحيط به. فعالم الشّاعر لا يُدرك بالمعرفة التّجريبيّة، وإنّما هو مزيج من الخيال والذّاكرة. وليست قصيدته إلاّ انعكاسًا لهذا العالم المختلف. فنحن مثلاً لا يمكننا قراءة دلالة "الظّلّ" المتكرّرة في شعره على أنّها مجرّد أثر للأشياء، ولا بوصفها خيالاً شبحيًّا؛ لعلّها الصّورة التضمينيّة للمعنى، أو المعنى نفسه. يقول في قصيدة "الشّجرة التّي أجلس في فيئها":
"ما هو لي، هو له ولي،
وماله، يتصرّف به وحده...".
أمّا في قصيدة "عتبات" فيردف قائلاً:
"أهذه
حدود
وظلّي يلاعب أخيلة
وادعة في شقوق الجدران"
من هنا، بعد بثّ الأنا في سواها، تتحوّل إلى "أنا" مثقلة بالعالم. بالتّالي، الذّات – لدى داغر –هي ذات الشّاعر وأكثر. والأنا الواردة في القصائد، هي "أنا" شخص يقدّم إلينا ما يشاهده، من دون أن يُقحم رغباته، ولا مشاعره، بالضّرورة في تحديد عالم القصيدة. وهذا ما ينزع عن ضمير المتكلّم، صفات الرّومنسيّة، وما يدفعنا إلى التّساؤل: هل استخدامه لضمير المتكلّم في مجمل القصائد هو تدبير وخيار يتماشيان مع هيئة النّصّ الشّعريّ؟
إنّ الشّعر عند د. داغر ضوءٌ للقارئ، بحيث تبقى الصّورة زائفة، تقيم الأشياء في ظلّها وصداها، تقيم في وعدها وتملأ بغيابها الحضور. لقد دخل عالم الشّعر كما يدخل غابة مجهولة، مليئة بالمخاطر، بقدر ما هي مغوية. وفيما كان يكتب قصائده، كان مشغولاً بفتح طريق جديد، يمنح، من خلاله، نصوصه الشّعريّة شكلاً جديدًا.
وإذا كان الشّاعر قد مضى في نصوصه الشّعريّة، فإنّ القارئ يُعيد الخُطى فيها، لا سيّما أنّ الحياة هي بهشاشة عصفورة، وهي بحاجة دومًا إلى شاعر يحتفي بإيقاعاتها. وهذا ما ستبيّنه الحوارات المنتقاة داخل هذا الكتاب.