العبوةُ النازفة في الكرمل!

آمال عوّاد رضوان - فلسطين تَحْمِلُنا أَسمَاؤنَا إِلى أَعمَاقِ مَجهُولٍ يَتنَاسَل .. نَحْنُ؛  فِكرَةُ خَلْقٍ يَتَكوَّرُ في رَحمِ المُنَى! * نُعايِنُ ظِلالَ اللهِ تَكسُو بِحَارَ الحَواسِّ؛ تُربِكُنَا أَمواجُ الرَّهبةِ .. فَنَتقوَّس وبِتثَاقُلٍ مُهتَرئٍ بَينَ تَعاريجِ الحُزنِ وشَظايَا الفَرحِ نَتَّكِئُ علَى مَسَاندِ الصَّمتِ نَنْكأُ جُروحَاً تَغفُو لِنَنْشُرَ سَوادَ الأَلَمِ حَلِيباً يَتعَشَّقهُ مِدَادُ الحَنِين * تَتَرنَّحُ قَواربُ أَحلامِنَا خَدِرةً يَتنَاثَرُها جُوعُ عَواصفِ الوقتِ الكَافِر، وفي دَوَّاماتٍ مُفرَغةِ الحُروفِ وبِوَرعِ الضَّوءِ الخافتِ الخافقِ نَرسِمُنا قِصَصاً تَتلوَّى لَوعةً في قَفصِ البَراءَة * لِبُرهَةٍ؛ نُومِضُ بَسَماتٍ تَرتشِفُ دَمعاً يَترَشَّحُ حَيرةً حَيرَى من ثُقوبِ قَلبٍ يَتَفايضُ نُوراً، ولِوَهلَةٍ؛ تَنثَني هَالاتٌ من أَسفَارِ الأَيَّام تَتشَكَّلُ رَغوةَ تَساؤلٍ على جَبينِ الفُصُول وبِخلسَةٍ؛ نَلِجُ أَحشاءَ العَمرِ بِشَهوةٍ تَعزِفُنا أَنامِلُ نَيسَان أُكذُوبةً عَلى أَوتَارِ الذَّاكرةِ والنِّسيَانِ المُتَقَاطِعَة!    Cordes croisées Par :Amal Radwan ……Traduite par : Farah Souames Nos noms nous mènent aux profondeurs d’un inconnu propageant Nous……. L’idée d’une existence roulant au cœur de l’espoir * On lorgne les ombres divines couvrant les mers des sens Les vagues de l’effroi nous déconcertent…on s’incline D’une gêne usagée Entre courbes de tristesse et étincelles de liesse On se repose sur les supports du silence Vexant des blessures qui sommeillent Ressuscitant la noirceur de la douleur en lait Passionnant l’encre de la nostalgie * Les barques de nos rêves se balancent engourdies Dispersées par l’inanition des tempêtes de temps infidèles Dans des remous vides de caractères Et la piété d’une lumière faible et palpitante Se dessinent des contes et se tordent anxieuses A la barre d’innocence * L’espace d’un instant, On scintille des sourires feutres de larmes Infiltrant la perplexité A travers un cœur perce, débordant de lueur * L’espace d’un instant, Les auréoles des périples quotidiens s’inclinent Formant une écume de question au front des saisons Et usant de cacherie On glisse aux tripes de la vie d’une passion Jouée en Avril telle un mensonge Sur Les cordes croisées de la mémoire et l’oubli آمال عوّاد رضوان - فلسطين  جَعَلْتُ قَلْبَكَ عُلّيْقَةَ مُوسَى  تَشْتَعِلُ بِاخْضِرَارِ نَارِي وَلا تَترمَّدُ ! * أنَا عُصْفورَةُ نارٍ لكِنِّي .. لا أُحْرِقُ وَلا أُرْمِدُ وَما كُنْتُ أَنْفُخُ في رَمادٍ بَل ؛ أُلْهِبُ الصُّدورَ الْمُرَمَّدَةَ بِجِمَاري *  دَعِ الدَّمْعَةَ عَلى شِفاهِ الثَّلْجِ تَسحُّ .. تَنْشَطِرُ .. عَلَّ الثَّلْج يَذوبُ .. فَلِمَ تَنتَظِر؟ مَا تِلْكَ بدَمْعَةِ نَدَمٍ ، هِيَ قَطرةُ حَياةٍ دَعْها تََهْمي فَما ذاكَ بِانْكِسَار * أنا مَن احتملَ في مِنْقارهِ جَذْوَةَ نارِ الهَوى دَعْني أُدْفِئْكَ بِها أُجَفِّفُ طَواحينَكَ المُبْتلَّةَ بِحَرَارَتي * أجِيئُكَ أُخبِّئُ لكَ تَحْتَ جَناحَيَّ غِلالَ حُبِّي فَهيِّئْ .. سيِّدي .. أَجنِحةَ عِنَاقِنَا أَثِرْ أَريَاشَهَا بِنَسائِمي لِيأْخُذْنا هَفِيفُهَا إلَى دُوَارٍ لَذِيذ !  Moineau de feu   Par :Amal Radwan Traduite par : Farah Souames   J’ai fait de ton Cœur, un roncier de Moise Brulant à la verdeur de mon feu Sans se réduire en cendre * Je suis un moineau de feu Mais Ni brulant, ni cendreux Je ne soufflais à la cendre Mais Je brulais les âmes cendreuses de mes braises * Laisse une larme sur les  lèvres de glace Couler Fendre Fondant peut être la glace Qu’attends-tu ? Ce n’est nul une larme de regret C’est une goutte de vie Laisse-la se déverser Ce n’est nul une rupture * Moi Qui supporta sur mon bec, le tison des feux de la passion Laisse-moi te réchauffer Sécher tes moulins humides De ma chaleur * Je viens à toi  Cachant sous mes ailes les fruits de ma passion Dresse les ailes de nos étreintes Marque-les de mes brises Que leur bruissement Nous emmène Dans un tourbillon délicieux آمال عوّاد رضوان - فلسطين  لا زالَ يافعًا يانعًا، لا تعرفُ أجنحتُهُ الوهّاجة ذبولاً، رغْم أنّهُ محاصرٌ بينَ قضبانِ الاحتراق، في مِرجلٍ تُزوبعُ به متاهاتُ الدّروب، وذلك؛ لِما تميّز بهِ مِن عذوبةِ موْسقتِهِ وشجنِهِ! كمثلِ حاكورةٍ صغيرةٍ، ملآى بكلِّ أنواعِ الأشجارِ المثمرةِ وأشجارِ الزّينةِ بسياج صبّارِها؛  حاكورةٌ ترعرعتْ وسطَ غابةِ الاستبدادِ وأدغالِ الاحتلالِ وأحراشِ القهرِ! حاكورةٌ نما في أحواضِها الوجعُ، وفي أحضانِها التحدّي، فدُمّرَ كثيرٌ من أعشاشِها، وهُجّر كثيرٌ من أطيارِها دون أرياشِها، في منافي الشّتاتِ والضّياع والفراغ، بلا أرض ولا سماءٍ وبلا هويّة!  إنّهُ الشّعرُ الفلسطينيُّ في الدّاخل؛ راسخُ الجذورِ منذ الجيلِ الأوّلِ، وقد اتّجهَ مؤشّرُ بوصلتِهِ صوْبَ مكانةٍ مرموقةٍ في الشّعرِ العربيّ والعالميِّ!  الشّاعرُ الفلسطينيُّ في الدّاخلِ امتطى صهوةَ ثقافتِهِ وما ترجّلَ عنها، رغمَ الاختناقِ وضيقِ التّنفّس، بل شنّ وعيَهُ وأدواتِهِ اللّغويّةَ اللاّهبةَ ضدّ مذابح الغزو، وضدّ حصْرِهِ في قواقعِ الطّائفيّةِ والأقليّةِ العربيّةِ في دولةٍ يهوديّةٍ، فعايشَ البيئةَ الجديدةَ وواكبَها بالمواجهةِ، وتصدّى لمحْوِ ذاكرتِهِ التّراثيّةِ وتاريخِ حضارتِهِ!  الشّاعرُ الفلسطينيُّ تفاعَلَ معَ العالم الخارجيِّ، ولم يكن رهينَ شعرِ المقاومةِ، كما أطلقَ الأديبُ غسّان كنفاني، ورغمَ المآسي التي يكابدُها، ما تنازلَ عن ثوابتِ وكواشينِ حواكيرِهِ، ولم يقتصرْ شعرُهُ على النّدبِ والشّجبِ فحسْب، إنّما أثمرتِ الحواكيرُ الفلسطينيّةُ ما لذَّ وطابَ مِن شعرٍ شعبيٍّ وفصيحٍ بليغٍ، يتحدّثُ فيهِ عن الحنينِ والغربةِ والمقاومةِ والتّحدّي، والحُبِّ والعِشقِ وجَمالِيات الحياةِ والمشاعرِ الإنسانيّةِ، وتعميقِ الحياةِ وتجميلِ الوجودِ وبناءِ المستقبل، من خلالِ مساحاتٍ فكريّةٍ شاسعةٍ، وانتماءاتٍ ثقافيّةٍ مختلفةٍ وبشتّى الرّؤى.  الشّاعرُ الفلسطينيُّ إنسانٌ اعترَكتْهُ الظّروفُ فعايشَ القهرَ، وتدرّبَ كيفَ يعتلي سُحُبَ الخيالِ والتّصوّر، ليُحلّقَ بأجنحةِ التّصويرِ والإبداعِ، كي يخلقَ عالمًا أجملَ مِن الحقيقة، لذا تفاعلَ معَ البيئةِ والحياةِ وظروفِها وتفاصيلِها اليوميّة بمنتهى الحساسيّةِ الإبداعيّة، وكانَ لشعرِ المقاومةِ أن يتصدّرَ المشهدَ الشّعريَّ مِن أجلِ التّحريرِ والحرّيّة المنشودَيْن، ففرَضَ نفسَهُ إعلاميًّا، وتجلّى بشكلٍ بارزٍ بما يتوافقُ والحالة الرّاهنة التي استمرّتْ واستدامتْ، وقد تُرجمَ كثيرٌ مِنَ الأشعارِ للعبريّةِ ولغاتٍ أخرى، ولوحِقَ بعضُ أصحابِها، لِما تحملُهُ مِن فِكرٍ وتحريضٍ يُعارضُ سياسةَ التّهويدِ المفروضة، وبسببِ الانتماءاتِ الحزبيّةِ، في ظلِّ غيابِ الوطنِ وسيادتِهِ الفلسطينيّة.  مِن شعرائِنا مَن سطعَ نجمُهُم وحضورُهُم في وسائلِ الإعلامِ الحزبيّة، وتركَ بصمةً زيتيّةً في الذاكرةِ الثقافيّة، وأثرًا محفورًا في سنديانِ المهرجاناتِ الثّوريّةِ والاحتفالاتِ الشّعريّةِ التّحميسيّةِ، ومنهم مَن خفَتَ نجمُهم حدَّ البصيص، وما عُرف قدْرُهم وما نالوا حقّهم، فقد توهّجَ بينَ سُحُبِ السّماءِ مَن توهّج، وناسَ بينَ الغيومِ مَن وشّحتْهُ بضبابِها، وقد حوكِم الإبداعُ الأدبيُّ حزبيًّا وسياسيًّا، وبكلِّ أسفٍ، ظلّتْ تخضعُ ثقافتُنا للامتحانِ وإثباتِ الوجودِ والحضورِ، وبقيتْ رهينةً تستعطفُ الودَّ العربيَّ حتّى اليوم، ويحاولُ فلسطينيّو إسرائيل أن ينفوا التّهمةَ المُوجَّهةَ إليهم، كي يُثبتوا أنّهم أبرياء مِن دمِ المبايعةِ أو التّسليمِ والاستسلام، وأنّهم عربٌ أقحاح ما تهوّدوا ولا تطبّعوا ولا تأسرلوا!  وفي ظلِّ التّهميشِ العربيِّ للمأساةِ المستديمةِ العليلةِ، غدا فلسطينيّو ال 48 ضّحيّةً مفخّخةً موقوتةً، ومُعلّقةَ خارجَ الأحداثِ التّاريخيّةِ والخرائطِ الجغرافيّةِ، فهم الضّحيّةُ الموصومةُ بختمٍ إسرائيليٍّ ينبغي التخلّص منه أو تذويبه، وهكذا؛ بُتِرَ شعبُنا عن شقيقِهِ الآخر في الضّفّةِ وغزّة، واستُبعِدَ عن الأمّةِ العربيّةِ وسياساتِها في صُنعِ القرار، كأنّما توقّفتْ عجَلةُ التّاريخِ عند شرْخِ النّكْبةِ دونَ حَراكٍ عربيّ مُسانِد! وكانَ للجيلِ الأوّلِ مهمّةٌ شاقّةٌ مِن خلالِ الإبداعِ الفلسطينيِّ، هو خلْق نموذج مقاومة، مِن خلال الكلمةِ الحادّةِ اللاّهبةِ، والنّاقرةِ على شريانِ وجعِ المنكوبِ ونبض معاناةِ الشّعب، إلاّ أنّ البعضَ دخلوا في مرحلةِ الاجترارِ والتقليدِ للنّموذجِ السّابق، والبعضَ لا زالَ قادرًا على تشكيلِ رؤًى فكريّةً ناضجةً مستحدثة، وإبداعيّةً متميّزة بفنّيّتِها، وبمستوًى عربيٍّ عالميٍّ، وتستمرُّ حربُ الحَرْف!  هل يجهلُ المحتلُّ ما للإعلام الوطنيّ بشتّى وسائلِهِ وتقنيّاتِهِ من دورٍ رئيسيّ هامٍّ في دعْمِ الهويّةِ الوطنيّةِ، ومن محاربةِ النّزعاتِ الطّائفيّةِ، ومن نَشْرِ الثّقافةِ المستقِلّةِ وتعزيزِ الثّقةِ والانتماءِ الوطنيِّ والقوميّ؟ وهل يخفى على المثقّفِ الواعي تأثيرُ الإعلام، وحضورُه الفعّالُ المباشرُ محليًّا وعربيًّا وعالميًّا، وفي إعطاءِ المبدعُ فرصَ تطويرِ إمكاناتِهِ الأدبيّةِ والإبداعيّةِ، دونَ الولاءِ لجهةٍ ما أو حزبٍ داعم؟  طبعا لا، إنّما حُكم القويّ السّائد الجائر حجّمَ وقلّصَ للشّعبِ الأعزل إمكاناته التقنيّة التثقيفيّة، لكنّه ما استطاع أن يثبط العزيمةَ والهمّة في النّضالِ الواعي، أو يحبطَ التصدّي العنيد، من أجلِ الحفاظِ على الكيانِ الفلسطينيِّ العربيِّ لغةً وحسًّا وانتماءً، دونَ تهجينٍ أو تذويب. لكن؛ وبسبب توقّفَ الاهتمامُ والإعلامُ العربيُّ فقط عندَ أسماء محدودة مِن أدبائِنا، ونماذجَ قليلة مِن شعرائِنا، مَن بيعتْ وسُوّقتْ وتُرجمتْ وانتشرتْ كتبُهم في المكتباتِ العربيّة، ونالَ أصحابُها حصّةَ الأسدِ في تلقّي الدّعوات والمشاركةِ والانتشار عربيّا وعالميّا، وبسببِ غيابِ التّنظيماتِ الثّقافيّةِ والأدبيّةِ الوطنيّةِ المحَلّيّة المُحارَبة صهيونيًّا، فقد تولّدتْ أزمةُ غيابِ النّقدِ الحقيقيِّ الموضوعيِّ المَحلّيِّ والعربيّ، فهيّأتْ مناخًا تسودُهُ الشّلليّةُ المُتسلّقةُ البارزة، والّتي أركنتِ المواهبَ والتّجاربَ الأدبيّةَ المتميّزةَ في هوامشِ الإبداعِ، فكساها غبارُ الإهمالِ والإحباطِ دونَ تسويقٍ، بل عمدتْ على ترويجِ الرّديءِ بدلاً مِنَ الأجوَد.  وها هي واحةَ الشّعرِ الفلسطينيّةِ الزّاهيةِ لا زالتْ تزهرُ وتُثمرُ وتُظلّلُ، وتفوحُ أزاهيرُها في صحراءَ تكثرُ فيها الرّمالُ المتحرّكة لتبتلَعها، حيثُ تنعقَ فيها الأبواقُ المشبوهةُ والهِممُ الوصوليّةُ، الّتي تنعفُ الرّمالَ الحارّةَ في عيونِ المبدعينَ والمثقّفينَ والقرّاءِ والبسطاء. إضافةً إلى الشّبكةِ العنكبوتيّةِ التي لعبتِ دوْرًا هامًّا في كسْرِ الحواجزِ الجغرافيّةِ والحدودِ السّياسيّةِ المفروضة، في السّنواتِ العشرِ الأخيرةِ، كما وساعدتْ في انتشارِ الثّقافةِ الرديئةِ والجيّدة، ولكن على مستوى فرديٍّ وليس جماعيٍّ ووطنيٍّ، وهذا شقٌّ آخر من المأساةِ التي توالتْ أكثرَ من ستّة عقود!  وتاريخيًّا؛ ابتدأتْ معاناةُ الوسطِ الثّقافيّ المَحلّيِّ منذ أحداثِ النّكبةِ، بعدَ إغلاقِ المؤسّساتِ الثّقافيّةِ الفلسطينيّةِ في حيفا ويافا، اللّتيْن كانتا محطّتيْنِ هامّتين أسوةً بالعواصم العربيّة، ففي حين استقطبتا أمّ كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش والكثيرَ مِن الأدباءِ والمثقفين، وزخرتا بالمقاهي الأدبيّةِ والفنادقِ والمطابع والصّحفِ والمسارحِ والنّشاطاتِ الثّقافيّةِ المختلفةِ، وعلى مستوى عربيٍّ يُضاهي بغدادَ والشّامَ والقاهرة ثقافيًّا وحضاريًّا وتجاريًّا، فقد هُجِّرَتْ نُخَبُ شعبِنا المقتدرينَ ثقافيًّا وماديًّا، وهُدّمتِ المراكزُ الثّقافيّة، واعترى البلادُ شللٌ مؤسّساتيّ ثقافيٌّ وتفكّكاتٌ تنظيميّة، فقد صارتْ بلادُنا عبارةً عن قرى صغيرةٍ وكبيرةٍ، تفتقدُ إلى معالم المُدنِ المدنيّةِ والإبداعيّة، وتفتقرُ إلى مؤسّساتٍ وطنيّةٍ ثقافيّةٍ متطوّرة! فهل يُعيدُ الفلسطينيّونَ مجْدَ حيفا العتيق ومناخ عكّا المائج وميناءَ يافا الغابر؟ كيف؟ متى؟ ومِن أيّةِ منطلَقاتٍ يمكن أن تتجاوزَ المِحنة؟ آمال عوّاد رضوان - فلسطين  بتاريخ 31-3-2011 أقامَ منتدى الحوار الثقافيّ في الكرمل ندوة، في صالة جاليري مركز التراث البادية عسفيا، لتسليط أضواءِ الحديثِ على رواية "العبوة النازفة" للشّاعر فهيم أبو ركن، وقد استهلّ اللقاء الأستاذ رشدي الماضي بكلمته: المبدعُ فهيم أبو ركن كشاعر وكاتب تسكنُهُ شعلة يحملها "شيطانُها"، لتظلّ متّقدةً داخلَه، ويظلّ هو حارسُها الأمين، وللسّائل عمّ يبحث أقول: إنّه يبحث عن أسلوب في الحياة يسمحُ له بمطلق الحرّيّة والصّدق، من خلال إبداعاتِهِ المختلفة، لا لمواجهةٍ صريحة مخلصة مع الواقع فقط، إنّما أيضًا للغوص في أعماق النفس، والبحث فيها عن مناظرَ لم ترَها العين المجرّدة، وعن أصواتٍ لم تسمعْها الأذن، فالإبداعُ عنده سجلٌّ لحُلم خاصّ، هذا بل وأكثر، لأنّ قارئَهُ الرّائي يلتقي مع كلماتِهِ، التي تؤكّد أنه يبحث عن موقف في الأدب والحياة يجد نفسَهُ فيه غيرَ منافقٍ ولا مُفترٍ ولا مُنقادٍ، فإيمانُهُ راسخٌ إلى حدّ التّعصّب لِما يراهُ حقًّا وواجبًا، لذلك يقول كلمته بأمانة مُطلقة، تأتي تلاوةً مرتّلةً تنسابُ ممتزجةً بتألّقها وتلوّنها كقوس قزح، لتُعبّدَ الطريق لاكتشاف الحقيقة العاطفيّة والفكريّة والواقعيّة دون تعكير، ولتفجّر ينابيع جديدة من الإبداع الأدبيّ والجَماليّ، فتحول دون الضّيق في أفق التّفكير. ولأنّ المبدع هو ضمير مجتمعِهِ والمتحدّث بلسانِهِ، ويتّبعُ خطى أرسطو الذي علّمَنا أن نحبّ الحقيقة، لذلك فهو يواصل مِن خلال تفاعلِهِ مع الزّمن وسبْرِ أغوارِهِ بقوّة لمّاحةٍ جوانيّةَ الجهْر بخبيئةِ صدرهِ، كي تبقى الكلمة حقًّا هي الدّواء من شرّ أمراض العقل، وتَحول دون تهافت الوعي واستمرار تفكّك الذّات الإنسانيّة. وكانت كلمة د. فهد ابو خضرة نوعيّة، حول الأجناس الأدبيّة مِن شعر وقصّة ورواية وخطاب ومسرحيّة ومقالة، وحول تاريخ الرّواية والمسرحيّة وجذورهما في الأدب العربيّ، وتأثّر العرب بالغرب كثيرًا. أمّا د. منير توما فتحدّث عن التأويل الرّمزيّ لرواية العبوة النّازفة: فكرة موضوع الرواية مادّةٌ خصبة للتّحليل الأدبيّ المُعمّق على مستويات عديدة ومختلفة، حيث يقرؤها البعض على أنّها قصّة من النّوع الرّوائيّ الواقعيّ بمعانيها وأحداثها العاديّة المباشرة، ولكني أرى أنّه مِن الأهمّيّة بمكان أن نقرأ هذه الرواية، ونقوم بتحليلها على مستوى الرّمز، فهي تحتمل تأويلاتٍ رمزيّة متنوّعة، تعتمد على رؤية القارئ والناقد للأحداث والتطوّرات الدّراميّة داخل الرّواية، وعلى ردود فِعل الشّخصيّات التي تنسجُ خيوط المضمون، وتؤطّرُ المعنى الرّمزيّ الفريد لها، وفقا لمنظور وخلفيّة القارئ في فهم دلالات الإيحاءاتِ والإشارت الضّمنيّة، التي تُلقي الضّوء على التّرميز المنطقيّ للمعاني المستنبَطة، مدعّمًا بشواهدَ نصّيّةٍ مِن الرّواية. تخبرنا الرّواية بأنّ محمّد عبدالسّلام يسافر مع ابنته أحلام على ظهر سفينة تمخر عباب البحر، ويوجد على ظهر هذه السّفينةِ مجموعة من المسافرين الإسرائيليّين، وبضمْنِهم مسافرٌ من قرية عسفيا الكرمل يُدعى أديب، يبغي الرّحيل للولايات المتحدة بهدف البحث عن مستقبل جديد، حالِمًا بحياةٍ كريمة بعد أن رفض أهلُ حبيبتِهِ تزويجَهُ إيّاها، لا سيّما وأنّه شابٌّ فقير مادّيّا. وتشاء الأقدارُ أن يستمعَ صدفةً إلى حديثٍ يدورُ بينَ عبدالسّلام وابنته الشابّة أحلام، حول قنبلة أو عبوة ناسفة وضعها في غرفته بالسّفينة، بغية تفجيرها بمن عليها من مسافرين، وذلك انتقامًا من السّلطة التي أساءت إلى حياته وشعبه، وظلمته كثيرًا كما يقول لتبرير فعلته هذه، رغم عدم اتفاق أحلام معه بشأن نيّته لنسف السّفينة، وكان قد تمّ التعارف بعد ذلك بين أحلام ووالدها وأديب، حيث يتضح أنّ محمّد عبدالسلام كان صديقا لوالد أديب، ويقرّر أديب أن يمنع حدوث تفجير السّفينة دون أن يُخبر رجال الأمن في السّفينة، تحسُّبًا مِن إيذاءِ والد أحلام، فيدخل أديب سرّا إلى غرفة والد أحلام، كي يقذف القنبلة في البحر لينقذ ركاب السفينة من موت أكيد، ولكن لحظة وجوده في الغرفة يدخل ضبّاط الأمن، ويلقون القبض عليه اعتقادًا منهم بأنه الجاني، وهكذا تنتهي الرّواية باعتقال أديب ذي النوايا الطيّبة، مُقرِّرًا في أعماقه أن يُطالب بحقّه، ومُصمّمًا على إظهار الحقيقة. لقد حفّزنا الكاتب لتفسير وتأويل هذه الرّواية على صعيد الرّموز المسيحيّة في الأدب، انطلاقًا مِن ثوابت العقيدة المسيحيّة الإنجيليّة والكنسيّة معًا، فالأب محمّد عبدالسّلام هو رمز لشريعة العهد القديم من الكتاب المقدّس، التي تدعو إلى مبدا العين بالعين والسّنّ بالسّنّ، وذلك من خلال رغبته في الانتقام من السّلطة، بإراقة دماء ركّاب السّفينة باعتبارهم من رعايا هذه السّلطة. أمّا الابنة أحلام فترمز إلى روح العهد الجديد من الكتاب المقدّس، أي رسالة الإنجيل التي نادى بها السّيّد المسيح، والتي تمثّل مبدأ المحبّة والتّسامح والسّلام بين بني البشر، ونبذ العنف، وعدم مقابلة أو مواجهة الشّرّ بالشّرّ، بل بالإحسان إلى المسيئين والصّلاة لأجلهم، من منطلق محبّة الإنسان لأخيه الإنسان. وفيما يتعلّق برمزيّة بطل الرّواية أديب، فإنّه يرمز إلى المسيح الذي جاء حسب العقيدة المسيحيّة ليفتدي البشر، ويحمل خطاياهم على كاهله، فكان من تداعيات ذلك القبض عليه، والحُكم عليه بالصّلب دون ذنب اقترفه سوى أنه جاء يدعو للسّلام، ورفض الانتقام، فكان صلبُهُ رمزًا للخلاص ولفداء البشر، والانتقال بالإنسان مِن الموت إلى الحياة بقيامته بعد غفران الخطايا، وهكذا كان أديب رجل الضمير والإنسانيّة والسّلام، بمحاولته إنقاذ ركّاب السّفينة مِن الموت، ليكتب لهم الحياة كمسيح أنجز مهمّته، ولو كان ذلك على حساب براءته، بعد أن أراد أديب بإقدامه على خطوته هذه، أن يثبت لنا أنه على حق، فهو لم يرغب في إيذاء والد أحلام من جهة، وتوخّى إنقاذ ركّاب السّفينة من جهة أخرى، لأنّ للإنسان الحقّ في الحياة، فكان هذا طريقه الذي اختاره لنفسه لانجاز مهمّته، ممّا يُذكّرنا هنا بقول السّيّد المسيح، بأنّه هو الطّريق والحقّ والحياة. ومن زاويةٍ أخرى، فإنّ أديب كما تُصوّرهُ الرّواية هو مغترب عن وطنه في هذه السّفينة، بعد أن رفضه أهل حبيبته، فهو رمزيًّا كالمسيح الذي رفضته خاصّته، ولم يقبل شعبه رسالته، وكان فقيرًا وديعًا كأديب الذي حظي بقبول أحلام واحترامها له، حيث تُمثّلُ أحلام رسالة المسيح بالسّلام الإنسانيّ ونبْذ الانتقام والقتل، بالإضافة إلى كوْنها رمزًا للأمم مِن غير شعبه، تلك الأمم التي قبلت وتبنّت رسالته، وما الرّواية إلاّ تأكيدًا موحيًا لهذه المعاني الرّمزيّة. "لم يخطر على بال أديب أبدًا، أنّ أحلام تفكّرُ مثله وتُؤمن بنفس المبادئ تقريبًا، وكاد ينساها وينسى أباها، فقد انصبّ جلّ اهتمامِهِ على طريقة إبطال مفعول القنبلة، ولم يكن يتوقع أن تسرعَ أحلام فتُبلغَ الشّرطة بأمر القنبلة بغير إرادة أبيها رغم حبّها له، وكلّ ما فكّر به هو أن يقوم بواجبه وينقذ نفسه والمسافرين، ويمنع حدوث كارثة أو ارتكاب جريمة". ص 125. وفي ص 126 نجد نصًّا تتماهى كلماته مع هذه الأفكار التي طرحناها آنفًا، بخصوص رمزيّة شخصيتيْ أديب وأحلام: "لم يستطع أديب أن يكتشف مبادئ أحلام من خلال لقاءاتهما القصيرة على ظهر السّفينة، ولم يعتقد أنّها ستفضّلُ الالتزام بمبادئها على رغبة أبيها بتنفيذ العمليّة، ولم يفكّر بما قد يُخبّئه له المُستقبل". وممّا تجدر الإشارة له في هذه الرّواية، أن للسّفينة رمزيّة هامّة جدًّا، بكوْنها تشكّلُ عالَمًا صغيرًا microcosm للبشريّة التي جاء المسيح ليفتديها على الصّليب وفقًا للعقيدة المسيحيّة، ويمنحها الحياة بدل الموت، وهو يحمل خطايا البشر مع كوْنه بريئًا من الخطيئة، تمامًا كأديب الذي ألقي القبض عليه، واعتقل لجُرمٍ لم يرتكبه، حيث مِن المتوقّع أن يلقى عقابًا شديدًا قد تكون عاقبته الموت كالمسيح، الذي كان ينزف دمًا على الصّليب، ليكتب الخلاص والحياة للآخرين، ومن هنا كانت تسمية الكاتب لروايته بـ "العبوة النازفة"، إشارة إلى نزيف الدم الفادي للآخرين، الذي قد يتعرّض له أديب على سبيل الرّمز، استنادًا لكون السّفينة رمزًا للوجود في بحر الحياة لعبور مياه الموت، حيث أنه في التّرميز المسيحيّ تشير السّفينة إلى فُلك نوح أو سفينة الخلاص من الموت، فهي تحمل النّفوس والأرواح بأمان خلال الخطر، وهي تُصوَّرُ دائمًا بأنّها تبحر في المياه الصّاخبة، لتُذكّرنا بإبحار المسيح مع تلاميذه في القارب ببحيرة طبريّا في الجليل، حينما هدّأ العاصفة وأزالَ خطرَ الغرق، كما أنّ شكل الصّليب هو سارية السّفينة أو صاري المركب، الذي يستحضر برمزيّتِهِ انتصارَ الحياة على الموت، بكلّ ما يحمله ذلك من معاني السّلامة والأمان مِن مخاطر رحلة الحياة. وكما كنّا قد أشرنا في مستهلّ مداخلتنا هذه بأنّ محمد عبد السلام يرمز إلى شريعة العهد القديم من الكتاب المقدّس، التي تدعو إلى المعاملة بالمثل والانتقام، بينما ترمز ابنته أحلام إلى روح العهد الجديد الدّاعي إلى التّسامح والمحبّة، فإنّ خُلاصة الرّواية تعكس لنا غلبة روح العهد الجديد على شريعة العهد القديم، من خلال تصرّف أحلام الذي منح الحياة لركّاب السّفينة، أي البشريّة رمزيًّا، ممّا يتّفق مع قوْل بولس الرّسول بأنّ: "قدرتنا من الله، فهو الذي جعلنا قادرين على خدمة العهد الجديد عهد الرّوح، لا عهد الحرف، لأنّ الحرف يُميت والرّوح يُحيي" كورنتوس 3: 5-6) ومهما يكن مِن أمر، فإنّ هذا التأويل الرّمزيّ لرواية العبوة النازفة قد يكون مخالِفًا لِما عناهُ الكاتب، وربّما يكون بعيدًا كلّ البُعد عمّا قصده في مضمون الرّواية، بل مِن المحتمل أنّ هذه المعاني الرّمزيّة التي أوردناها لم تخطر على باله أبدا، ولكن العمل الأدبيّ بكافّة ضروبهِ وأجناسه يصبح مُلكًا لتحليل القارئ والناقد عند صدوره، بحيث يملك الحرّيّة لتفسيره وتأويلِهِ مِن وجهة نظره الخاصّة، وإن كانت أحيانًا تتعارض وتتناقض مع مقاصد الكاتب أو تعليق النقاد الآخرين. فهيم أبو ركن قد اتّسم في روايته هذه كغيرها من الأعمال بالشّجاعة الأدبيّة، بوصْفها التعبير عن التيّار الضّعيف غير الظاهر للعيان، فالشّجاعة الأدبيّة ليست اندفاعًا مع التيّار السّائد، بل هي عبور ضدّ التيّار أو تحويلٌ للتيّار السّائد عن مجراه، الذي اتّخذه الناس وألِفوه إلى مجرًى آخر جديد، بيْدَ أنّ المجرى الجديد ليس مِن خُلق صاحب الشّجاعة الأدبيّة، بل هو مجرى موجود أصلاً ولكنّه ضعيفٌ نسبيًّا، ومهمّة الشّخص الشّجاع شجاعة أدبيّة كأديبنا، أن يدفع بمجرى التيّار بشدّة في اتّجاه ذلك المجرى الضّعيف، وهذا ما فعله وقام به الأستاذ في روايته هذه، حيث اتّسمت شجاعته الأدبيّة هنا ببلاغة التّعبير والقدرة على الإقناع والاستمالة، من خلال نزعته الإنسانيّة الواضحة وشفافيّته النّفسيّة الهادئة، لا سيّما وأنّه قدّم لنا شخصيّتيْن شجاعتيْن في الرّواية نتناولهما على مستوى الرّمز الاجتماعيّ النّفسيّ، وهما أديب بطل القصّة، وأحلام ابنة أبيها عبد السّلام. أحلام هي نموذج يرمز إلى المرأة الشّجاعة، التي تميل إلى الاحتفاظ بذاتيّتها، فهي كامرأةٍ شجاعة لا تذوب في شخصيّة أحد ممّن يحيطون بها بمَن في ذلك الأب، ومعنى هذا؛ أنها كامرأة شجاعة تظلّ مستقلّة بفِكرِها وعواطفها وإرادتها، ولا تسمح بأن تتنازل عن استقلال مقوّماتها الذاتيّة هذه تحت أيّ ظرْف مِن الظروف، ولأيّ سبب من الأسباب، وهي تميّز بين الأفكار، كالأفكار التي يَعرضها والدها مثلا، وتأخذ ما يروق لها وترفض مالا يعجبها منها. أحلام كامرأة شجاعةٍ تقوم بعمليّة انتقاءٍ من بين خيارات فكريّة متعدّدة، وتقبل الفكرة التي تميل إليها وتستوعبها، وتُحيلها إلى مقوّم من مقوّماتها الذهنيّة، وإلى لحم من لحم كيانها الفكريّ، ومعنى هذا؛ أنّها كرمز للمرأة الشجاعة تُقبل بغير تهيّب أخيرًا على عمليّة التفاعل الذهنيّ، التي تؤدّي الهدف الذي اعتقدت بصوابه وصحّة نتائجه. وبالنسبة للمجال العاطفيّ وعلاقة المودّة العابرة مع أديب على ظهر السّفينة، فإنّها لا تتلوّن في عواطفها، بل هي تصدر فيما تحبّه وتكرهه في ضوء ذاتيّتها، وفي ضوء المحور العاطفيّ الذي تشكّل لديها، فالمرأة الشجاعة كأحلام تتمتع بالاستقرار الوجدانيّ وحتى في تأثّرها بالآخرين من حولها كأديب، وفي التعاطف معهم كأبيها، فهي لا تغضّ عن ذلك المحور الوجدانيّ الرّاسخ الذي تكوّن وتشكّل لديها، من هنا فإنّنا نستطيع أن نقف على ما يمكن أن تحسّ به أحلام كرمز للمرأة الشجاعة، وما تستشعره من عواطف وانفعالات إنسانيّة، فهي تظلّ مستقلّة وجدانيًّا عنهم وإن تجاوبت معهم. وكامرأة شجاعة تُحسِنُ التوقيت الذي تعلن فيه العصيان الخفيّ على نيّة وخطّة والدها، وتتخذ الخطوة التي تراها مناسبة في نظرها، بحيث لا تؤذي والدها ولا ركّاب السّفينة في الوقت نفسه، بحيث يتّصف هذا الموقف بالحكمة والرّويّة وحُسن التّمييز بين الخطوات التي يتوجّب عليها أن تتّخذها. أمّا بالنّسبة لأديب كرمز للرّجل الشّجاع، فالواقع أن أيّة شخصيّة لا بدّ أن ترتكز على بعض المبادئ الثابتة، وبخصوص أديب، فإنّ المبادئ التي ترتكز عليها شخصيّته واضحة متميّزة، فهي أعلى المبادئ الخُلقيّة مكانة وسمُوًّا كما يتضح مِن سيْرِ أحداث الرواية وملابساتها وتداعيات مجرياتها. فهو كرجل شجاع ليس تابعًا في تشكيل أفكاره وأحكامه بصدد الاشياء والعلاقات والمواقف، بل هو الذي يبلور أفكاره بنفسه، وإن كان يستفيد ويستنير بأفكار الآخرين، فالحصيلة النهائيّة لأفكاره، وأحكامه تصطبغ بصبغته الذاتيّة دون التّأثر أو الانجرار والانقياد وراء ما لا يستسيغه مِن أمور. في الواقع أنّ الرّجل الشّجاع كأديب يتّسم بالواقعيّة حتى في مواقفه مع الآخرين، ومع مشاعر الانتقام االغاضبة كذريعة لإزهاق الأرواح البشريّة في غير طائل، وهذا ما امتاز به أديب في سلوكه وتصرّفه عند نهاية الرّواية، مع أنّ نتائج فعلته الخيّرة جاءت بعكس ما كان يتوقّع بالنّسبة لمصيره كإنسان بريء يسعى إلى الخير، لتنقلب الأمور عليه ويتعرّض لاتّهام خطير وخيم العواقب، وكلّ ذلك بفعل النّوايا الحسنة للشّخصيّتيْن الشّجاعتيْن في الرّواية؛ أديب وأحلام، وتضارُب المواقيت لديهما، ليكون أديب ضحيّة وكبش فداء لسخرية الأقدار ومساوئ الصّدف إلى حدّ كبير. لأديبنا الكريم فهيم أبو ركن أجمل التهاني بصدور روايته، ودوام التوفيق والعطاء في عالم الثقافة والإبداع. وفي نهاية اللقاء كانت عدّة مداخلاتٍ ونقاش مفتوح مِن قِبل الأدباء والشّعراء والضّيوف، واختتم اللّقاء المُحتفى به الشّاعرُ فهيم أبو ركن، بتثمين هذا اللقاء المُثمِر، وشُكر الحضور لهذه الأمسية.

آمال عوّاد رضوان - فلسطين 

بتاريخ 31-3-2011 أقامَ منتدى الحوار الثقافيّ في الكرمل ندوة، في صالة جاليري مركز التراث البادية عسفيا، لتسليط أضواءِ الحديثِ على رواية "العبوة النازفة" للشّاعر فهيم أبو ركن، وقد استهلّ اللقاء الأستاذ رشدي الماضي بكلمته:
المبدعُ فهيم أبو ركن كشاعر وكاتب تسكنُهُ شعلة يحملها "شيطانُها"، لتظلّ متّقدةً داخلَه، ويظلّ هو حارسُها الأمين، وللسّائل عمّ يبحث أقول: إنّه يبحث عن أسلوب في الحياة يسمحُ له بمطلق الحرّيّة والصّدق، من خلال إبداعاتِهِ المختلفة، لا لمواجهةٍ صريحة مخلصة مع الواقع فقط، إنّما أيضًا للغوص في أعماق النفس، والبحث فيها عن مناظرَ لم ترَها العين المجرّدة، وعن أصواتٍ لم تسمعْها الأذن، فالإبداعُ عنده سجلٌّ لحُلم خاصّ، هذا بل وأكثر، لأنّ قارئَهُ الرّائي يلتقي مع كلماتِهِ، التي تؤكّد أنه يبحث عن موقف في الأدب والحياة يجد نفسَهُ فيه غيرَ منافقٍ ولا مُفترٍ ولا مُنقادٍ، فإيمانُهُ راسخٌ إلى حدّ التّعصّب لِما يراهُ حقًّا وواجبًا، لذلك يقول كلمته بأمانة مُطلقة، تأتي تلاوةً مرتّلةً تنسابُ ممتزجةً بتألّقها وتلوّنها كقوس قزح، لتُعبّدَ الطريق لاكتشاف الحقيقة العاطفيّة والفكريّة والواقعيّة دون تعكير، ولتفجّر ينابيع جديدة من الإبداع الأدبيّ والجَماليّ، فتحول دون الضّيق في أفق التّفكير. ولأنّ المبدع هو ضمير مجتمعِهِ والمتحدّث بلسانِهِ، ويتّبعُ خطى أرسطو الذي علّمَنا أن نحبّ الحقيقة، لذلك فهو يواصل مِن خلال تفاعلِهِ مع الزّمن وسبْرِ أغوارِهِ بقوّة لمّاحةٍ جوانيّةَ الجهْر بخبيئةِ صدرهِ، كي تبقى الكلمة حقًّا هي الدّواء من شرّ أمراض العقل، وتَحول دون تهافت الوعي واستمرار تفكّك الذّات الإنسانيّة.
وكانت كلمة د. فهد ابو خضرة نوعيّة، حول الأجناس الأدبيّة مِن شعر وقصّة ورواية وخطاب ومسرحيّة ومقالة، وحول تاريخ الرّواية والمسرحيّة وجذورهما في الأدب العربيّ، وتأثّر العرب بالغرب كثيرًا.
أمّا د. منير توما فتحدّث عن التأويل الرّمزيّ لرواية العبوة النّازفة:
فكرة موضوع الرواية مادّةٌ خصبة للتّحليل الأدبيّ المُعمّق على مستويات عديدة ومختلفة، حيث يقرؤها البعض على أنّها قصّة من النّوع الرّوائيّ الواقعيّ بمعانيها وأحداثها العاديّة المباشرة، ولكني أرى أنّه مِن الأهمّيّة بمكان أن نقرأ هذه الرواية، ونقوم بتحليلها على مستوى الرّمز، فهي تحتمل تأويلاتٍ رمزيّة متنوّعة، تعتمد على رؤية القارئ والناقد للأحداث والتطوّرات الدّراميّة داخل الرّواية، وعلى ردود فِعل الشّخصيّات التي تنسجُ خيوط المضمون، وتؤطّرُ المعنى الرّمزيّ الفريد لها، وفقا لمنظور وخلفيّة القارئ في فهم دلالات الإيحاءاتِ والإشارت الضّمنيّة، التي تُلقي الضّوء على التّرميز المنطقيّ للمعاني المستنبَطة، مدعّمًا بشواهدَ نصّيّةٍ مِن الرّواية.
تخبرنا الرّواية بأنّ محمّد عبدالسّلام يسافر مع ابنته أحلام على ظهر سفينة تمخر عباب البحر، ويوجد على ظهر هذه السّفينةِ مجموعة من المسافرين الإسرائيليّين، وبضمْنِهم مسافرٌ من قرية عسفيا الكرمل يُدعى أديب، يبغي الرّحيل للولايات المتحدة بهدف البحث عن مستقبل جديد، حالِمًا بحياةٍ كريمة بعد أن رفض أهلُ حبيبتِهِ تزويجَهُ إيّاها، لا سيّما وأنّه شابٌّ فقير مادّيّا. وتشاء الأقدارُ أن يستمعَ صدفةً إلى حديثٍ يدورُ بينَ عبدالسّلام وابنته الشابّة أحلام، حول قنبلة أو عبوة ناسفة وضعها في غرفته بالسّفينة، بغية تفجيرها بمن عليها من مسافرين، وذلك انتقامًا من السّلطة التي أساءت إلى حياته وشعبه، وظلمته كثيرًا كما يقول لتبرير فعلته هذه، رغم عدم اتفاق أحلام معه بشأن نيّته لنسف السّفينة، وكان قد تمّ التعارف بعد ذلك بين أحلام ووالدها وأديب، حيث يتضح أنّ محمّد عبدالسلام كان صديقا لوالد أديب، ويقرّر أديب أن يمنع حدوث تفجير السّفينة دون أن يُخبر رجال الأمن في السّفينة، تحسُّبًا مِن إيذاءِ والد أحلام، فيدخل أديب سرّا إلى غرفة والد أحلام، كي يقذف القنبلة في البحر لينقذ ركاب السفينة من موت أكيد، ولكن لحظة وجوده في الغرفة يدخل ضبّاط الأمن، ويلقون القبض عليه اعتقادًا منهم بأنه الجاني، وهكذا تنتهي الرّواية باعتقال أديب ذي النوايا الطيّبة، مُقرِّرًا في أعماقه أن يُطالب بحقّه، ومُصمّمًا على إظهار الحقيقة.
لقد حفّزنا الكاتب لتفسير وتأويل هذه الرّواية على صعيد الرّموز المسيحيّة في الأدب، انطلاقًا مِن ثوابت العقيدة المسيحيّة الإنجيليّة والكنسيّة معًا، فالأب محمّد عبدالسّلام هو رمز لشريعة العهد القديم من الكتاب المقدّس، التي تدعو إلى مبدا العين بالعين والسّنّ بالسّنّ، وذلك من خلال رغبته في الانتقام من السّلطة، بإراقة دماء ركّاب السّفينة باعتبارهم من رعايا هذه السّلطة.
أمّا الابنة أحلام فترمز إلى روح العهد الجديد من الكتاب المقدّس، أي رسالة الإنجيل التي نادى بها السّيّد المسيح، والتي تمثّل مبدأ المحبّة والتّسامح والسّلام بين بني البشر، ونبذ العنف، وعدم مقابلة أو مواجهة الشّرّ بالشّرّ، بل بالإحسان إلى المسيئين والصّلاة لأجلهم، من منطلق محبّة الإنسان لأخيه الإنسان.
وفيما يتعلّق برمزيّة بطل الرّواية أديب، فإنّه يرمز إلى المسيح الذي جاء حسب العقيدة المسيحيّة ليفتدي البشر، ويحمل خطاياهم على كاهله، فكان من تداعيات ذلك القبض عليه، والحُكم عليه بالصّلب دون ذنب اقترفه سوى أنه جاء يدعو للسّلام، ورفض الانتقام، فكان صلبُهُ رمزًا للخلاص ولفداء البشر، والانتقال بالإنسان مِن الموت إلى الحياة بقيامته بعد غفران الخطايا، وهكذا كان أديب رجل الضمير والإنسانيّة والسّلام، بمحاولته إنقاذ ركّاب السّفينة مِن الموت، ليكتب لهم الحياة كمسيح أنجز مهمّته، ولو كان ذلك على حساب براءته، بعد أن أراد أديب بإقدامه على خطوته هذه، أن يثبت لنا أنه على حق، فهو لم يرغب في إيذاء والد أحلام من جهة، وتوخّى إنقاذ ركّاب السّفينة من جهة أخرى، لأنّ للإنسان الحقّ في الحياة، فكان هذا طريقه الذي اختاره لنفسه لانجاز مهمّته، ممّا يُذكّرنا هنا بقول السّيّد المسيح، بأنّه هو الطّريق والحقّ والحياة.
ومن زاويةٍ أخرى، فإنّ أديب كما تُصوّرهُ الرّواية هو مغترب عن وطنه في هذه السّفينة، بعد أن رفضه أهل حبيبته، فهو رمزيًّا كالمسيح الذي رفضته خاصّته، ولم يقبل شعبه رسالته، وكان فقيرًا وديعًا كأديب الذي حظي بقبول أحلام واحترامها له، حيث تُمثّلُ أحلام رسالة المسيح بالسّلام الإنسانيّ ونبْذ الانتقام والقتل، بالإضافة إلى كوْنها رمزًا للأمم مِن غير شعبه، تلك الأمم التي قبلت وتبنّت رسالته، وما الرّواية إلاّ تأكيدًا موحيًا لهذه المعاني الرّمزيّة.
"لم يخطر على بال أديب أبدًا، أنّ أحلام تفكّرُ مثله وتُؤمن بنفس المبادئ تقريبًا، وكاد ينساها وينسى أباها، فقد انصبّ جلّ اهتمامِهِ على طريقة إبطال مفعول القنبلة، ولم يكن يتوقع أن تسرعَ أحلام فتُبلغَ الشّرطة بأمر القنبلة بغير إرادة أبيها رغم حبّها له، وكلّ ما فكّر به هو أن يقوم بواجبه وينقذ نفسه والمسافرين، ويمنع حدوث كارثة أو ارتكاب جريمة". ص 125.
وفي ص 126 نجد نصًّا تتماهى كلماته مع هذه الأفكار التي طرحناها آنفًا، بخصوص رمزيّة شخصيتيْ أديب وأحلام:
"لم يستطع أديب أن يكتشف مبادئ أحلام من خلال لقاءاتهما القصيرة على ظهر السّفينة، ولم يعتقد أنّها ستفضّلُ الالتزام بمبادئها على رغبة أبيها بتنفيذ العمليّة، ولم يفكّر بما قد يُخبّئه له المُستقبل".
وممّا تجدر الإشارة له في هذه الرّواية، أن للسّفينة رمزيّة هامّة جدًّا، بكوْنها تشكّلُ عالَمًا صغيرًا microcosm للبشريّة التي جاء المسيح ليفتديها على الصّليب وفقًا للعقيدة المسيحيّة، ويمنحها الحياة بدل الموت، وهو يحمل خطايا البشر مع كوْنه بريئًا من الخطيئة، تمامًا كأديب الذي ألقي القبض عليه، واعتقل لجُرمٍ لم يرتكبه، حيث مِن المتوقّع أن يلقى عقابًا شديدًا قد تكون عاقبته الموت كالمسيح، الذي كان ينزف دمًا على الصّليب، ليكتب الخلاص والحياة للآخرين، ومن هنا كانت تسمية الكاتب لروايته بـ "العبوة النازفة"، إشارة إلى نزيف الدم الفادي للآخرين، الذي قد يتعرّض له أديب على سبيل الرّمز، استنادًا لكون السّفينة رمزًا للوجود في بحر الحياة لعبور مياه الموت، حيث أنه في التّرميز المسيحيّ تشير السّفينة إلى فُلك نوح أو سفينة الخلاص من الموت، فهي تحمل النّفوس والأرواح بأمان خلال الخطر، وهي تُصوَّرُ دائمًا بأنّها تبحر في المياه الصّاخبة، لتُذكّرنا بإبحار المسيح مع تلاميذه في القارب ببحيرة طبريّا في الجليل، حينما هدّأ العاصفة وأزالَ خطرَ الغرق، كما أنّ شكل الصّليب هو سارية السّفينة أو صاري المركب، الذي يستحضر برمزيّتِهِ انتصارَ الحياة على الموت، بكلّ ما يحمله ذلك من معاني السّلامة والأمان مِن مخاطر رحلة الحياة.
وكما كنّا قد أشرنا في مستهلّ مداخلتنا هذه بأنّ محمد عبد السلام يرمز إلى شريعة العهد القديم من الكتاب المقدّس، التي تدعو إلى المعاملة بالمثل والانتقام، بينما ترمز ابنته أحلام إلى روح العهد الجديد الدّاعي إلى التّسامح والمحبّة، فإنّ خُلاصة الرّواية تعكس لنا غلبة روح العهد الجديد على شريعة العهد القديم، من خلال تصرّف أحلام الذي منح الحياة لركّاب السّفينة، أي البشريّة رمزيًّا، ممّا يتّفق مع قوْل بولس الرّسول بأنّ: "قدرتنا من الله، فهو الذي جعلنا قادرين على خدمة العهد الجديد عهد الرّوح، لا عهد الحرف، لأنّ الحرف يُميت والرّوح يُحيي" كورنتوس 3: 5-6)
ومهما يكن مِن أمر، فإنّ هذا التأويل الرّمزيّ لرواية العبوة النازفة قد يكون مخالِفًا لِما عناهُ الكاتب، وربّما يكون بعيدًا كلّ البُعد عمّا قصده في مضمون الرّواية، بل مِن المحتمل أنّ هذه المعاني الرّمزيّة التي أوردناها لم تخطر على باله أبدا، ولكن العمل الأدبيّ بكافّة ضروبهِ وأجناسه يصبح مُلكًا لتحليل القارئ والناقد عند صدوره، بحيث يملك الحرّيّة لتفسيره وتأويلِهِ مِن وجهة نظره الخاصّة، وإن كانت أحيانًا تتعارض وتتناقض مع مقاصد الكاتب أو تعليق النقاد الآخرين.
فهيم أبو ركن قد اتّسم في روايته هذه كغيرها من الأعمال بالشّجاعة الأدبيّة، بوصْفها التعبير عن التيّار الضّعيف غير الظاهر للعيان، فالشّجاعة الأدبيّة ليست اندفاعًا مع التيّار السّائد، بل هي عبور ضدّ التيّار أو تحويلٌ للتيّار السّائد عن مجراه، الذي اتّخذه الناس وألِفوه إلى مجرًى آخر جديد، بيْدَ أنّ المجرى الجديد ليس مِن خُلق صاحب الشّجاعة الأدبيّة، بل هو مجرى موجود أصلاً ولكنّه ضعيفٌ نسبيًّا، ومهمّة الشّخص الشّجاع شجاعة أدبيّة كأديبنا، أن يدفع بمجرى التيّار بشدّة في اتّجاه ذلك المجرى الضّعيف، وهذا ما فعله وقام به الأستاذ في روايته هذه، حيث اتّسمت شجاعته الأدبيّة هنا ببلاغة التّعبير والقدرة على الإقناع والاستمالة، من خلال نزعته الإنسانيّة الواضحة وشفافيّته النّفسيّة الهادئة، لا سيّما وأنّه قدّم لنا شخصيّتيْن شجاعتيْن في الرّواية نتناولهما على مستوى الرّمز الاجتماعيّ النّفسيّ، وهما أديب بطل القصّة، وأحلام ابنة أبيها عبد السّلام.
أحلام هي نموذج يرمز إلى المرأة الشّجاعة، التي تميل إلى الاحتفاظ بذاتيّتها، فهي كامرأةٍ شجاعة لا تذوب في شخصيّة أحد ممّن يحيطون بها بمَن في ذلك الأب، ومعنى هذا؛
أنها كامرأة شجاعة تظلّ مستقلّة بفِكرِها وعواطفها وإرادتها، ولا تسمح بأن تتنازل عن استقلال مقوّماتها الذاتيّة هذه تحت أيّ ظرْف مِن الظروف، ولأيّ سبب من الأسباب، وهي تميّز بين الأفكار، كالأفكار التي يَعرضها والدها مثلا، وتأخذ ما يروق لها وترفض مالا يعجبها منها.
أحلام كامرأة شجاعةٍ تقوم بعمليّة انتقاءٍ من بين خيارات فكريّة متعدّدة، وتقبل الفكرة التي تميل إليها وتستوعبها، وتُحيلها إلى مقوّم من مقوّماتها الذهنيّة، وإلى لحم من لحم كيانها الفكريّ، ومعنى هذا؛ أنّها كرمز للمرأة الشجاعة تُقبل بغير تهيّب أخيرًا على عمليّة التفاعل الذهنيّ، التي تؤدّي الهدف الذي اعتقدت بصوابه وصحّة نتائجه.
وبالنسبة للمجال العاطفيّ وعلاقة المودّة العابرة مع أديب على ظهر السّفينة، فإنّها لا تتلوّن في عواطفها، بل هي تصدر فيما تحبّه وتكرهه في ضوء ذاتيّتها، وفي ضوء المحور العاطفيّ الذي تشكّل لديها، فالمرأة الشجاعة كأحلام تتمتع بالاستقرار الوجدانيّ وحتى في تأثّرها بالآخرين من حولها كأديب، وفي التعاطف معهم كأبيها، فهي لا تغضّ عن ذلك المحور الوجدانيّ الرّاسخ الذي تكوّن وتشكّل لديها، من هنا فإنّنا نستطيع أن نقف على ما يمكن أن تحسّ به أحلام كرمز للمرأة الشجاعة، وما تستشعره من عواطف وانفعالات إنسانيّة، فهي تظلّ مستقلّة وجدانيًّا عنهم وإن تجاوبت معهم.
وكامرأة شجاعة تُحسِنُ التوقيت الذي تعلن فيه العصيان الخفيّ على نيّة وخطّة والدها، وتتخذ الخطوة التي تراها مناسبة في نظرها، بحيث لا تؤذي والدها ولا ركّاب السّفينة في الوقت نفسه، بحيث يتّصف هذا الموقف بالحكمة والرّويّة وحُسن التّمييز بين الخطوات التي يتوجّب عليها أن تتّخذها.
أمّا بالنّسبة لأديب كرمز للرّجل الشّجاع، فالواقع أن أيّة شخصيّة لا بدّ أن ترتكز على بعض المبادئ الثابتة، وبخصوص أديب، فإنّ المبادئ التي ترتكز عليها شخصيّته واضحة متميّزة، فهي أعلى المبادئ الخُلقيّة مكانة وسمُوًّا كما يتضح مِن سيْرِ أحداث الرواية وملابساتها وتداعيات مجرياتها.
فهو كرجل شجاع ليس تابعًا في تشكيل أفكاره وأحكامه بصدد الاشياء والعلاقات والمواقف، بل هو الذي يبلور أفكاره بنفسه، وإن كان يستفيد ويستنير بأفكار الآخرين، فالحصيلة النهائيّة لأفكاره، وأحكامه تصطبغ بصبغته الذاتيّة دون التّأثر أو الانجرار والانقياد وراء ما لا يستسيغه مِن أمور.
في الواقع أنّ الرّجل الشّجاع كأديب يتّسم بالواقعيّة حتى في مواقفه مع الآخرين، ومع مشاعر الانتقام االغاضبة كذريعة لإزهاق الأرواح البشريّة في غير طائل، وهذا ما امتاز به أديب في سلوكه وتصرّفه عند نهاية الرّواية، مع أنّ نتائج فعلته الخيّرة جاءت بعكس ما كان يتوقّع بالنّسبة لمصيره كإنسان بريء يسعى إلى الخير، لتنقلب الأمور عليه ويتعرّض لاتّهام خطير وخيم العواقب، وكلّ ذلك بفعل النّوايا الحسنة للشّخصيّتيْن الشّجاعتيْن في الرّواية؛ أديب وأحلام، وتضارُب المواقيت لديهما، ليكون أديب ضحيّة وكبش فداء لسخرية الأقدار ومساوئ الصّدف إلى حدّ كبير.
لأديبنا الكريم فهيم أبو ركن أجمل التهاني بصدور روايته، ودوام التوفيق والعطاء في عالم الثقافة والإبداع.
وفي نهاية اللقاء كانت عدّة مداخلاتٍ ونقاش مفتوح مِن قِبل الأدباء والشّعراء والضّيوف، واختتم اللّقاء المُحتفى به الشّاعرُ فهيم أبو ركن، بتثمين هذا اللقاء المُثمِر، وشُكر الحضور لهذه الأمسية.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-